ناصر الظاهري
هي حكاية من حكايات أناسنا الأولين، وكيف كانوا يسيرون على الهُدى، والصراط المستقيم، كانوا مبشرين بالنعيم، ومنذرين بالتي هي أحسن، يمشون بيننا بالبر والإحسان، لا يختلفون عن الناس، ولا يتمايزون، لا يحتكرون الجنة لهم، ولا يتوعدون الآخرين بالنار، الدين في المعاملة، والدعاء لا يسد له باب، يمرون على «البانياني» الذي يصنع أكياس الورق في جانب العين، ويسلمون عليه، وقد يسألون عن ابنته المريضة، يتعاملون مع صاحب الدكان القادم من بر فارس، بالمبادلة والمقايضة والسلف والدَين، ولا يعرفون ديِنه، ولا يهمهم إن كان يصلي على «قحف أو تربة» من كربلاء، والأجنبي كانوا فقط ينعتونه بالأحمر، كفكاهة اجتماعية، ولا يعنون الكافر، والملحد، ويتقاسمون اللقمة معه إن حلّ ضيفاً، يمكنهم أن «يهذبوا» ولد الجيران، لأنه خالف طبع الرجال، لكنهم لا يتبرؤون منه، المجتمع هو أناسهم، والناس هم أهلهم، ولاؤهم للوطن، وحاكم الدار، هم الناصحون للصلاح والفلاح، ولا يرهبون الناس، ولا يجيّشونهم لمحاربة الأهل والعباد، والبلاد بغية رغبات الشيطان.
الشيخ مجرن، أو القاضي مجرن كما كان يسميه أهالي العين، واحد من مطاوعة الأمس، كان بيته لا يبعد عن بيتنا سوى دقيقة من ركضة صبي يحمل بعض الكيلوات الزائدة، وأحياناً حين تحمّر عليه عين الأب، أو يشعر بخوف التأخير، كان يأخذ المسافة بين البيتين قاضماً طرف كندورته في نَفَس واحد، كنت في صباي أرى الشيخ مجرن بشكل يومي ومتكرر، سواء في بيته الذي أعرفه، وكبرت فيه مع أبنائه، وحين يذهب في طريقه إلى نخله، حيث يمر بجانب بيتنا المؤدي إلى تلك الطرق الصغيرة المتعرجة، لم ألحق على الشيخ مجرن، وهو يقرّئ ويُدرس، فعهدي به عندما كان يقضي بين الناس، ويعقد مواثيقهم، ويبارك زواجهم، وحين يضطر للوصول إلى أبغض الحلال.
في جانب قصيّ من بيته، عملنا نادياً صغيراً، سميناه نادي النصر، كانت فيه ألعاب مسلية في ذاك الوقت «كيرم ودومنه»، وكرة قدم، ورفع أثقال، وطاولة خضراء لكرة التنس، كان يومنا كله فيه، وخاصة في العطل الصيفية، كنا نشاهد الشيخ مجرن يستظل تحت شجرة، أو ظلة بيته، يقرأ في كتب أكبر من كتب المدرسة، وحين يحين وقت الصلاة، كان ينهرنا، ويحضنا على الوضوء، وإدراك صلاة الجماعة، لكنه كثيراً ما كان يجدنا بعد عودته، تسبقه التهليلات والتسابيح، على حالنا ولعبنا، ساعتها يتهدد ويتوعد وخاصة لأبنائه الكبار، ثم يرجع إلى قراءاته، وكتاباته من جديد..
وغداً نكمل