بقلم - عريب الرنتاوي
على جبهات عدة، انخرطت دول عربية وازنة مثل: مصر، السعودية والإمارات، في مواجهات مباشرة أو "حروبٍ بالوكالة" مع تركيا، لعل أهم هذه الجبهات: ليبيا، سوريا، العراق، شرق المتوسط، القرن الأفريقي – الخليج العربي وجنوب القوقاز، فكيف جاءت حصيلة هذه المواجهات؟...وهل نجح العرب في الحد من نفوذ تركيا المتزايد واحتواء نزعاتها "العثمانية الجديدة"؟
ليس الهدف من هذا المقال، تقييم السياسة الخارجية والأمنية – الدفاعية التركية، ولا من وظائفه، نقد اتجاهات أنقرة لـ"عسكرة" السياسة الخارجية و"أمننة" السياسة الداخلية، فقد قلنا في ذلك الكثير، ومن يرجع لأرشيف مقالاتنا في السنوات الثماني الأخيرة، سيجد فائضاً من النقد والتحليل والتشريح، لمغامرات القيادة التركية في الخارج والداخل، وللأدوات "الخشنة" التي استبدلت بها "أدواتها الناعمة" التي اعتمدتها في العشرية الأولى لصعود "العدالة والتنمية".
وظيفة هذا المقال تنحصر بقراءة حصاد هذه السياسات، من خرج رابحاً من هذه المواجهات ومن خرج خاسراً بنتيجتها، ودائماً من على قاعدة: "الأمور بخواتيمها"...ولنبدأ من ليبيا، إذ لم تكن تركيا حتى أواخر العام المنصرم (2019)، وبعد أزيد من ثماني سنوات على اندلاع الأزمة، لاعباً يشار إليه بالبنان...فجأة، وبعد الكشف عن "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي ضم في عضويته معظم الدول المشاطئة واستثنى تركيا، ومع ما بدا أنها إرهاصات لتحالف مصري- قبرصي – يوناني، مدعوم من إسرائيل والإمارات، قفز رجب طيب أردوغان إلى طرابلس الغرب، وأبرم اتفاقية أمنية – دفاعية معها، وأخرى لترسيم الحدود البحرية...اليوم، لن يكون الحديث عن "حل سياسي" للأزمة الليبية ممكناً من دون دور تركي...صحيح أن التحرك المصري الميداني والدبلوماسي، ربما يكون نجح في الحد من جموح أنقرة، التي ربما كانت ترغب في بسط سيطرتها وسيطرة حلفائها على عموم ليبيا، إلا أن "خواتيم" المسألة الليبية جاءت في مصلحة تركيا على أية حال، سيما بعد أن فُتحت المياه والأجواء واليابسة على مصاريعها أمام القواعد البحرية والجوية والبرية التركية في الشمال الأفريقي...تركيا كسبت المعركة في ليبيا، حتى وإن لم تحسم الحرب، فيما خسر العرب الذين استثمروا مليارات الدولارات في دعم الجنرال حفتر بالمال والسلاح والعتاد والمرتزقة، وذهبت رهاناتهم هباء منثوراً.
ننتقل إلى شرق المتوسط، على مقربة من ليبيا، من ذا الذي يظن أنه سيكون بمقدور الدول المشاطئة أن تحسم أمر ترسيم الخرائط وتوزيع الثروات التي يزخر بها البحر، من دون تركيا؟...ليست حركة الاساطيل الحربية وسفن الاستكشاف هي الدلالة الوحيدة على تعاظم دور تركيا في الإقليم، ولا النجاحات في المسألة الليبية وحدها، هي من تؤهل أنقرة لكي تكون شريكاً في لعبة شرق المتوسط...أردوغان أضاف بعداً جديداً لنجاحات تركيا في هذه المنطقة، بعد أن أطاح برئيس شمالي قبرص المزعج، وصاحب الميول الوحدوية مع الشطر اليوناني الجنوبي، مصطفى أكنجي، وجاء برئيس موالٍ له تماماً في الانتخابات الأخيرة: إرسين تتار، ونفذ زيارة وصفت بـ"الاستفزازية" للجمهورية التي لا يعترف بها أحد غير تركيا، ودعا من "عاصمتها" لـ"حل الدولتين" في الجزيرة، بعد أن قطع شوطاً كبيراً على طريق إعادة صياغة الرأي العام "القبرصي – التركي"، وفقاً لخطابه القومي – الديني، وأنجز أوسع عملية "أسلمة" لسكان الشطر الشمالي، منهياً بذلك، آمالاً ورهانات على إعادة توحيد الجزيرة...تركيا تعزز دعائم وجودها في شرق المتوسط، والعرب يفشلون في احتوائه أو وقف تمدده.
ومن شرق المتوسط إلى جنوبي القوقاز، حيث وضعت الحرب الأرمينية – الأذربيجانية أوزارها، بهزيمة أرمينيا وانتصار أذربيجان، ولتسقط معها "مجموعة مينسك" الراعية لمسار السلام بين البلدين، ولتحل محلها الثنائية "الروسية – التركية"، تركيا تتواجد في أذربيجان لتبقى، وقواتها تسيّر مع القوات الروسية هناك، دوريات مشتركة، و"المرتزقة" من المعارضة السورية، التركمانية بخاصة، سيستوطنون في إقليم ناغورنو كاراباخ، وربما إلى الأبد...العرب هنا أيضاً، تلقوا هزيمة نكراء، وهم الذين لم يبخلوا على أرمينيا بالمال والسلاح والعتاد، نكاية بتركيا، لا حباً بالأرمن.
ومن شرق المتوسط، إلى القرن الأفريقي والخليج العربي، حيث يمتد النفوذ التركي، وغالباً بسبب إخفاقات الدول العربية واصطراعها بعضها مع بعضها الآخر...الصراع "الخليجي – الخليجي" على القرن الأفريقي، وفّر لأردوغان رأس جسر في الصومال...وأزمة حصار قطر، مكنته بناء قاعدة عسكرية في الخليج، على مبعدة كيلومترات قلائل من "العيديد"...وبدل احتواء نفوذ تركيا في الإقليم، فتحت أبواب "الداخل العربي" للنفوذ التركي، واستُجلبت تركيا إلى عقر البيت الخليجي.
ونعود إلى أول الفشل، نعود إلى شمالي سوريا والعراق، حيث المواجهة هناك بين العرب والأتراك، وقودها المال والسلاح والأكراد، وقبلها الجماعات السلفية والمنظمات التكفيرية، لم ينجح العرب في صد الطموحات التركية، فتركيا حاضرة في كلتا الأزمتين، وبقوة لا يضاهيها أي حضور عربي، لا مصري ولا خليجي، ولولا أن إيران تلعب دوراً حاسماً على امتداد البلدين، وفي قلب نظاميهما السياسيين، لولا الحضور الدولي، الأمريكي في العراق والروسي في سوريا، لسقط البلدان في قبضة "العثمانية الجديدة"، واستمر بعض العرب في العويل وإطلاق تهديداتهم الجوفاء التي لم تجلب نفعاً ولم تدرأ ضراً.
قولوا ما شئتم في أردوغان وحزبه و"عثمانيته الجديدة"، واستثمروا ما طاب لكم من فائض أموالكم في حملات "الشيطنة" والاستهداف لتركيا ونظامها وحزبها الحاكم ورئيسها "الشعبوي"، وقد يكون كثيرٌ مما قلتموه أو ستقولونه صحيحاً...لكن "الأمور بخواتيمها"...وخواتيمها تقول: أردوغان نجح في استنقاذ حكومة فايز السراج في الغرب الليبي، ومد نفوذ إلهام علييف في جنوب القوقاز، وعوّم "تتار" في شمالي قبرص، وأخرج قطر من عزلتها، أما أنتم، فهيهات لكم أن تحيوا عظام حفتر وهي رميم، أو أن تعيدوا عبد ربه منصور هادي إلى عدن أو سيئون، وليس إلى صنعاء أو صعدة...هل تستغربون بعد ذلك لماذا تعطي أرقام "الاستطلاعات" الرئيس أردوغان شعبية واسعة لدى الرأي العام العربي، فيما "شعبياتكم" تتآكل باطّراد؟