بِعُدولها عن قرار "تعليق" العمل بالاتفاقات السابقة، و"تجميد" التنسيق الأمني، تكون السلطة قد عادت بعلاقاتها مع الاحتلال إلى الوضعية التي كانت عليه، قبل التاسع عشر من أيار/مايو الماضي، أو هكذا يصرح الناطقون باسمها على أقل تقدير.
وبقرارها إعادة سفيريها إلى كل من المنامة وأبو ظبي بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على "سحبهما"، احتجاجاً على هرولتهما صوب مع إسرائيل، تأمل السلطة أن تكون قد عادت بعلاقاتها مع "الدول المطبعة" إلى ما كانت عليه قبل منتصف آب/أغسطس الفائت.
هذه الخطوات، إضافة إلى "تسريبات" أخرى، مفادها أن السلطة بعثت برسائل لفريق الرئيس المنتخب، تعرب فيها عن استعدادها الامتناع عن الانضمام لمنظمات دولية لا ترغب واشنطن (اقرأ تل أبيب) في رؤية فلسطين عضواً فيها، فضلاً عن مراجعة المناهج المدرسية، لشطب ما فيها من "تحريض" على إسرائيل، وربما غيرها من "إجراءات حسن النيّة"، تسعى السلطة لإعادة علاقاتها بواشنطن إلى ما كانت عليه، قبل العشرين من كانون الثاني/يناير 2017.
فهل هذه "العودات" و"الإعادات" ممكنة؟ ...وما الذي تتكشف عنه، عند وضعها في ميزان الربح والخسارة؟ ...وما الذي سيطرأ على مكانة الفلسطينيين وموقعهم "التفاوضي" بنتيجتها؟ ...أسئلة وتساؤلات لا ندري كيف أجابت السلطة عليها، وهي التي تغلق الباب وراء حفنة من المستشارين، حين تتخذ قراراتها "المصيرية"، وبمعزل عن مختلف مؤسسات النظام، أو "اللا-نظام" السياسي الفلسطيني.
في "العودة" الأولى؛ ستتسلم السلطة أموال المقاصة، وستساعدها ضرائب الفلسطينيين على استحداث انفراجة مالية، بعد أن اعتصرت الضائقة السلطة والمجتمع الفلسطينيين، وستحظى "القيادة" بـ “بوابل" من التصريحات المُشيدة بقراراتها "الجريئة" و"الحكيمة"، وقد تخرج من قبضة العزلة الدبلوماسية التي طوقتها، خلال الأشهر الستة الفائتة.
أما في خانة الخسارة، فالكفة ثقيلة والكلفة باهظة: لقد ارتضت السلطة بتسوية تهبط بقضية الأسرى والشهداء، من قضية "كبرياء وطني"، تحتفي برموز ومشاعل الحركة الوطنية (الأسيرة منها على وجه الخصوص)، وتحوّل أبطالها وفرسانها إلى "أيقونات" للشعب الفلسطيني، يتغنى بها ويتوارثها جيلاً بعد جيل، إلى مجرد قضية "شؤون اجتماعية" وعوائل لا معيل لها، وأسر فقيرة أو محتاجة...هذه صفعة قاسية للضمير الجمعي الفلسطيني، ورسالة لجيل جديد من المناضلين: حذار من الوقوع في الأسر أو الشهادة، فمصائر عائلاتكم "صناديق المعونة الوطنية"، في ظني أنها خسارة قيمية وأخلاقية، لا تقدر بثمن، وسيزداد الطين بِلّةً، إذا ما وصل الوعد بـ"مراجعة المناهج" حد "تنظيف" الذاكرة والتراث الفلسطينيين، من صور هؤلاء وقصص المجد والبطولة التي سطورها بتضحياتهم الجسام.
ثم، أن السلطة تظهر بما لا يدع مجالاً للشك، أنها غير قادرة على "الصمود" لأزيد من ستة أشهر في مواجهة الضغوط الإسرائيلية، سيما بعد أن تأكدت المعلومات بأنها كانت ماضية في قرار العودة للتنسيق الأمني، سواء فاز بايدن أو عاد ترامب لولاية ثانية...سلطة هذه هي حدود قدرتها على الصمود، و"لا-نظام سياسي" متهالك، "سلطوي" في الداخل و"متهافت" مع الخارج، لا يبدو أنهما سيكونان قادرين على استكمال مشوار الحرية والاستقلال، بل إنهما يستبطنان في طياتهما، إرهاصات الاستعداد للتخلي عمّا تبقى من عناصر المشروع الوطني الفلسطيني.
الخسارة تحققت، والعودة بالعلاقة مع الاحتلال، لن تكون أبداً إلى الوضع الذي كان قائماً قبل ستة أشهر...ستعود العلاقة، ولكن من موقع فلسطيني أدنى، بخلاف التصريحات الجوفاء التي روّجت لخطاب النصر، والتي لا تذكر بشيء سوى بـ "مدرسة أحمد سعيد" التي سعت في قلب هزيمة حزيران إلى "نصر مبين".
في "العودة" الثانية؛ إعادة سفيري فلسطين إلى أبو ظبي والمنامة، بعد أقل من مئة يوم على سحبهما، لن تعيد العلاقة الفلسطينية مع هذه الأطراف، إلى ما كانت عليه قبل أواسط آب/أغسطس الفائت، مع أن هذه العلاقة لم تكن حسنة، منذ سنوات عدة على أية حال.
"الهرولة" الفلسطينية لطي صفحة سحب السفراء، تُشعر المطبعين العرب، بتفوقهم وصحة خياراتهم، وتضع "الابن الفلسطيني الضال" في الموقع الأضعف، والأهم والأخطر، أنها "ترفع الحرج" عن أي عاصمة عربية تفكر بالتطبيع أو تتردد في الإقدام عليه، ضاربة عرض الحائط، بكل ما أجمع عليه العرب طوال أزيد من سبعين عاماً من عمر القضية الفلسطينية.
لن يكون بمقدور القيادة الفلسطينية بعد اليوم، حشد موقف عربي، رسمي أو شعبي ضد التطبيع، ولن يكون بمقدورها سحب سفير أو استدعاء آخر للتشاور، وقد لا يكون بمقدورها إصدار مجرد بيان إدانة أو تنديد...لكأننا أمام "مباركة" فلسطينية مسبقة لأي خطوة تطبيعية يمكن أن يقدم عليها أي نظام أو كيان عربي...هي طعنة نجلاء لحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولحملات المقاطعة الفلسطينية والعربية والدولية، مجانية بالكامل، وسريعة من دون مبرر.
في "العودة الثالثة"؛ يمكن القول إن الهدف الكامن وراء قرارات السلطة الأخيرة، هو تهيئة المسرح لعودة العلاقات الفلسطينية مع الولايات المتحدة، لما كانت عليه قبل تسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض.
إن تأكد فوز جو بايدن وانتقلت إدارته للبيت الأبيض في يناير القادم، ستجري بعض الدماء في عروق العلاقة الفلسطينية – الأمريكية المتيبسة، لكن العلاقة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل...وسيشرع الفلسطينيون في ترميم هذه العلاقات من موقع تفاوضي أضعف بكثير...السفارة الأمريكية ستبقى في القدس، والحقائق الاستيطانية التي فرضها نتنياهو – ترامب خلال السنوات الأربع الفائتة (ألوف المستوطنين والوحدات الاستيطانية والطرق الالتفافية والمنازل الفلسطينية المهدومة، والتغييرات في صورة القدس وهويتها وجغرافيتها وعمرانها) ستؤخذ دائماً في الحسبان، حين تقدم إدارة بايدن على رسم تصوراتها للحل النهائي، هذا إن وَجَدت "فائض الوقت والجهد" لفعل ذلك.
المشروع الوطني الفلسطيني، وخيار "حل الدولتين" كانا يترنحان قبل مجيء ترامب...والمؤكد أن العودة إلى تلك الحقبة من موقع أضعف، لن تسهم في استنقاذهما، ولا في تقريب الفلسطينيين من دولتهم الموعودة، سيما وأن خبرتنا مع القيادة الفلسطينية "واللا-نظام" الفلسطيني، لا تُبقي لنا أمل أو رهان على إمكانية اعتماد استراتيجية جديدة، تزاوج بين "التفاوض" و"المقاومة"، أو تسعى إلى "رفع كلفة الاحتلال"، أو تميل لتفعيل أوراق القوة التي يتوفر عليها الشعب الفلسطيني.
ما أن تعود علاقة رام الله بواشنطن إلى وضعية ما قبل 2016، حتى تستأنف السلطة فعل المزيد من الشيء ذاته، ولكن بشروط أصعب هذه المرة، فلا مصالحة ولا حوار، ولا مقاومة شعبية ولا مقاطعة، ولا عضوية منظمات دولية جديدة ولا مطاردة لإسرائيل في المحافل الدولية...ما الذي سيجبر إسرائيل على إنهاء الاحتلال، بل وما الذي سيدفع إدارة بايدن لبذل الوقت والجهد أو حتى لإبداء الاهتمام.
"العودات الثلاث" إلى ما كانت عليه السلطة والقضية، قد تأتي بحلول آنية لمأزق السلطة والقيادة وجيوش الموظفين ومنظومة المصالح والامتيازات، لكن المشروع الوطني الفلسطيني سيدخل في مرحلة "التصفية المتدرجة"، بالتقسيط مع بايدن، وليس بالجملة كما كان عليه حاله مع ترامب، على مراحل مع بايدن وليس دفعة واحدة مع ترامب، وبصمت فلسطيني خانع هذه المرة، بعد أن تكون السلطة قد بددت ما بحوزتها من أوراق، أما سيناريوهات "الانفجار" أو "الانهيار" التي كانت وشيكة في عهد ترامب، فستقرع الأبواب بعد ثلاث أو أربع سنوات، فلا السلطة قادرة على "أن تخرج من جلدها"، ولا الحركة الوطنية الفلسطينية على وشك اختبار "ثورة في الثورة"، فيما الحالة العربية، تتردى يوماً إثر آخر، و"قعر الهاوية" ما زال أمامنا وبانتظارنا.