بقلم - عريب الرنتاوي
بشغف بالغ، تابع الأردنيون وكثرة كاثرة من شعوب المنطقة العربية ومجتمعاتها، الانتخابات الأميركية.. كثيرون قضوا ساعات طويلة أمام الشاشات التي تنقل تفاصيل العملية الانتخابات في كل ولاية ومقاطعة أميركية.. بعضهم تنقل بين القنوات والمواقع والصحف للتعرف على مزيد من الفوارق في "التغطية"، علهم يعثرون على ما يمكنهم من إرواء ظمأهم للمعرفة.
الحدث كان مشوقاً للغاية، ليس لأنه يحدث في "الدولة الأعظم" في العالم، "الدولة" التي يقال "إنها دولة جارة، لكل دولة من دولة"، طالما أنها حاضرة بقوة في مختلف أقاليم العالم وأزماته، بالذات في هذه المنطقة، المشتعلة بالأزمات والحروب.. الحدث كان مشوقاً ومثيراً، لأن الانتخابات بذاتها، كانت مشوقة ومثيرة للغاية، فالسباق كان محتدماً.. المتنافسان لم تفصلها سوى مسافة أمتار قليلة في مضمار السباق الرئاسي، والتكهنات بشأن مرحلة ما بعد الانتخابات، وكيف سيتصرف الرئيس وأنصاره، زادت المشهد إثارة وتشويقاً، وهو مشهد ما زال متواصلاً حتى لحظة كتابة هذه السطور على أية حال.
وثمة سبب آخر، أكثر أهمية على ما أحسب، زاد المتابعين تعلقاً بمتابعة الحدث الأميركي، وأعني به، وفرة المعلومات المتصلة بالعملية الانتخابية ودقتها، جغرافيا، اثنيا، عرقياً، دينياً ومذهبياً، أقليات وأغلبية، التركيبة العمرية للناخبين، تركيبتهم الجندرية، مستويات تعليمهم ومهاراتهم، فرص المقارنة مع انتخابات سابقة، تكتيكات الحزبين الرئيسين، واتجاهات التصويت ودوافعه.. هذا الطوفان من المعلومات التي "شرّحت" مجتمع الناخبين الأميركيين، كان مذهلاً بحق، وأحسب أن كثيرين أخفقوا في كبح رغبتهم في المقارنة بين "انتخاباتهم" و"انتخاباتنا"، أقله لجهة "وفرة" المعلومات التي تحيط بالعملية الانتخابية، ومستوى "الشفافية" في الإفصاح عنها من دون قلق أو تحفظ.
دولتان عربيتان، كانتا بصدد إجراء انتخاباتهما البرلمانية في توقيت متزامن مع الانتخابات الأميركية.. انتخابات مجلس الشعب المصري عشية الانتخابات الأميركية، وانتخابات مجلس النواب الأردني غداتها.. أكاد أجزم بأن الانتخابات المصرية، لم تحظ باهتمام حفنة قليلة من المتابعين العرب، ولا أدري إن كانت أثارت اهتمام غالبية المصريين أنفسهم.. أما الموسم الانتخابي الأردني، الذي يحلوا لكثيرين منّا وصفه بـ"العرس الديمقراطي"، فهي بالكاد تثير اهتمام الحلقات المقربة جداً من المرشحين، أما بقية الرأي العام، ففي "وادٍ آخر" بعيد تماماً.
قد يقال إن الجائحة الوبائية و"الجائحة الاقتصادية"، فضلاً عن موسم الانتخابات الأميركية الأكثر سخونة، سحبت اهتمام الأردنيين والمصريين عن انتخاباتهم الخاصة.. والحقيقة أن سبباً آخر، أكثر أهمية، هو ما جعل ويجعل، الاهتمام بـ"انتخاباتنا" في أدنى مستوياته، ويتجلى على نحو خاص في تآكل مكانة السلطة التشريعية في نظامنا السياسي، فيما الانتخابات على كثرتها وانتظام انعقادها، لا تحدث فرقاً ملموساً على الإطلاق، فاليوم التالي للانتخابات لا يختلف بشيء عن اليوم الذي سبقه، ولا صلة من أي نوع، بين نتائج الانتخابات وتشكيل الحكومات في بلداننا.. في مصر الحكومة التي تجري الانتخابات تواصل عملها بعدها، وكأن شيئاً لم يحدث، والأردن قدّم تجربة فريدة من نوعها، إذ تشكلت الحكومة قبل شهر واحد فقط، من إجراء الانتخابات، والمرجح أن تستمر لسنوات عدة بعدها، لكأن الانتخابات بذاتها، ليست أكثر من "فاصل إعلاني قصير"، يعود بعدها الجميع لمواصلة يومياتهم المعتادة.
في العالم العربي، ثمة أربع دول، يمكن للمراقب أن يتابع "انتخاباتها"، بأقدار متفاوتة من الاهتمام: لبنان والعراق في المشرق، وتونس والمغرب في المغرب.. قبل عقدين من الزمن، كان يمكن للمراقب أن يبدي اهتماماً بمتابعة الانتخابات الفلسطينية، لكن تعطل النظام السياسي الفلسطيني، وعدم إجراء انتخابات منذ 15 عاماً، أفقد المراقبين اهتمامهم، وأخرج فلسطين من دائرة الدول التي تحظى انتخاباتها ببعض الاهتمام أو الكثير منه.
في هذه الدول الأربع، يمكن للانتخابات أن تكون مناسبة لمعرفة التغير الحاصل في توازنات القوى ومستويات "شعبية" الأحزاب" و"التيارات" السياسية والفكرية.. في هذه الدول، يُنتظر أن تتشكل الحكومات في ضوء نتائج الانتخابات، لا قبلها أو بمعزل عنها.. في هذه الدول، ثمة "عامل إقليمي" يمكن تتبع مستويات تأثيره على مجريات المشهد الداخلي فيها، وتحديداً في لبنان والعراق.. أما بقية الدول العربية، فلا شيء من كل هذا وذاك وتلك، يمكن تتبعه.
سوريا بالمناسبة، أجرت انتخابات لاختيار مجلس الشعب الجديد، قبل عدة أسابيع.. أصدقكم القول، أن السوريين أنفسهم، لا يعرفون ما الذي جرى وما الذي تغير.. الدوائر العائلية والاجتماعية القريبة جداً من المرشحين والنواب، هي التي تعرف من دخل المجلس ومن خرج منه، وكيف حدث هذا، أما الرأي العام على اتساعه، فليس في هذا الوارد على الإطلاق.
الانتخابات الأميركية، على ما سبقها ورافقها، وما قد يتبعها من تطورات وتداعيات، وفرت "تدريباً كثيفاً" على الديمقراطية بالنسبة لملايين العرب الذين تابع أحداثها عن كثب، حتى أن النظام الأميركي الأكثر تعقيداً "المجمع الانتخابي"، والأكثر فرادة في العالم، بات في متناول معرفة شرائح واسعة من الرأي العام العربي، وليس نخبه السياسية والإعلامية والثقافية فحسب.. معظم المتابعين، باتوا يعرفون كيف يجري احتساب النتائج الختامية، ووفقاً لأية قواعد.. وأكاد أجزم بأن كثرة من شعوبنا، لا تعرف بدقة، ماهية "أنظمتها الانتخابية"، نسبية أم أغلبية، ولا كيفية احتساب القوائم الفائزة، وكيف يعمل نظام "الكوتات"، ولا التوزيعات الجغرافية والأثنية والطائفية للمقاعد على الدوائر الانتخابية المختلفة.
لا شك أن "حرب التصريحات" التي اندلعت بين الحزبين الرئيسين، على خلفية اتهامات بالتزوير، أو دعوات غريبة لوقف فرز الأصوات وعدّها، وخروج متظاهرين أمام بعض مراكز الفرز والعد، والمخاوف التي تثار بشأن "سلاسة" انتقال السلطة في حال فوز بايدن، وكل ما يقال عن مسار طويل "للتقاضي" أمام المحاكم الأميركية، لا شك أن هذه الأنباء، ألقت ببعض الظلال على صورة الانتخابات، بل والديمقراطية الأميركية، بيد أن كثيرين نظروا لها بوصفها فصلاً من فصول "اللعبة الديمقراطية"، وإذا ما جاءت ردود أفعال الفريق الخاسر في هذه الانتخابات بحدود "المنطق والمعقول"، وفي إطار القانون وسيادته، فإن ما سيتبقى في الذاكرة الجمعية العربية عن انتخابات 2020 الأميركية، هي الصور عن "الديمقراطية الفاعلة"، وعن "المؤسسية" و"المؤسسات"، التي تحظى بثقة المواطنين، وتشكل ضمانة في مواجهة النزعات التسلطية والفردية والشعوبية، وتُعدّ مدخلاً لمعالجة ظواهر الاستقطاب والانقسام في المجتمع الأميركي، وهي ظواهر تبدو أكثر "حدةً" و"خطورة" في دولنا ومجتمعاتنا، من دون أن نمتلك "الآليات" و"الأدوات" التي تساعدنا على ردمها وتجسيرها.