من رام الله إلى عمان، ومن أبو ظبي إلى القاهرة، تحركات سياسية كثيفة واتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى، تشهدها عواصم المنطقة، وتتميز أولاً: بغياب الرياض، العاصمة الإقليمية الوازنة، عنها...وثانياً؛ في كونها تتفاعل بمعزل عن طلب أو تدخل عواصم القرار الدولي، وتحديداً واشنطن.
ثلاث قناعات مشتركة تتفاعل في هذه العواصم، وتسهم في حفزها على تكثيف نشاطها: الأولى؛ اغتنام فرصة بايدن – هاريس في البيت الأبيض...الثانية؛ القناعة بأنها قد تكون "آخر الفرص" لاستنقاذ "حل الدولتين"...والثالثة؛ الرغبة في تعبيد طريق الإدارة الجديدة، لجذب اهتمامها للمنطقة، وتحديداً للقضية الفلسطينية، وحفزها على استثمار الوقت والجهد الكافيين، لإغلاق هذا الملف.
ثمة قناعة رابعة، تتشارك فيها مؤسسات صنع القرار في العواصم الأربع، وتتجلى في معرفتها بأن "الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي" ليس من بين القضايا العشر الأكثر أهمية و"أولوية" على جدول الأعمال المحلي أو الخارجي للإدارة الجديدة، وإدراكها استتباعاً، للحاجة الملحة لإقناع الطبقة السياسية في واشنطن، بأن حل هذا الصراع، ليس بالأمر المستحيل، وأن الاستثمار في محاولة تسويته، يمكن أن يكون مجدياً.
تتعدد دوافع ومصالح هذه الأطراف وهي تخوض غمار، حراكها السياسي المستجد، من دول لها مصلحة مباشرة في الحل، مثل السلطة والأردن ومصر ثالثاً، إلى دول سئمت استمرار هذا الصراع، وما يلقيه من ظلال على "التحولات الاستراتيجية" في سياساتها وتحالفاتها الخارجية، وهنا يمكن إدراج الإمارات وغيرها من الدول المنخرطة في مسار تطبيعي مع إسرائيل.
الرياض، لها "مصلحة" و"رغبة" في غلق هذا الملف، بيد أنها تحاذر أن تكون رسمياً وعلنياً في صدارة قائمة "الدول المطبعة"، ولديها من هموم الداخل (الخلافة والوراثة) وأولويات الخارج (إيران واليمن) ما يصرفها عن قيادة هذا التحرك، ووضع كامل ثقلها وراءه...الرياض، تراقب مجريات المشهد عن كثب، وستقفز إليه في اللحظة المواتية سعودياً.
تستكمل التحركات الأخيرة، سلسلة من الخطوات المتزامنة والمنسقة، التي أقدمت عليها الأطراف المذكورة خلال الأسابيع التي أعقبت ظهور أول إرهاصات دالّة على فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية: قرارات السلطة باستئناف العمل بالاتفاقات المبرمة مع إسرائيل وعودة التنسيق الأمني، وحل مشكلة "أموال المقاصة" وفقاً للشرط الإسرائيلي، وما تلاها من قمة ثلاثية جمعت الأردن والبحرين بالإمارات في أبو ظبي، وعودة سفيري فلسطين إلى مقري عملهما في أبو ظبي والمنامة، وجولة عباس بين العقبة والقاهرة، وسيل الاتصالات الهاتفية بين قادة هذه الدول، والتكهنات بشأن احتمال ترتيب المزيد من "القمم"، الثلاثية والرباعية في قادمات الأيام، وربما بمشاركة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفي القاهرة أو أبو ظبي.
مرحلة جديدة ومفاهيم جديدة
يمكن النظر إلى الانخراط الفلسطيني في هذا الحراك، بوصفه دليلاً على انتقال السلطة من موقع إدانة "التطبيع" وتجريمه، ومقاطعة من يقدم عليه، إلى مرحلة التسليم به، بوصفه معطى موضوعياً قائماً في السياسات العربية، بل والرهان على إمكانية "توظيفه" و"استثماره"، إن لجهة إعادة تأهيل السلطة وغلق الباب في وجه مساعي دعم "قيادة بديلة" عنها أو مزاحمة لها، أو لجهة تقريبها من "تسوية تفاوضية" مع الجانب الإسرائيلي، رهاناً على وجود إدارة أمريكية جديدة، لها من المقاربات ما "يلتقي ويختلف" عن إدارة ترامب.
هنا، يمكن الاستخلاص، أن فرصة بناء موقف عربي مشترك، تتعزز باستمرار، ولكن على قاعدة جديدة مؤدّاها: إن الفلسطينيين، ما عاد لهم الحق أو السلطة، لإشهار "سيف الفيتو" في وجه التطبيع العربي مع إسرائيل، وأن هذا الجدار الرسمي الذي طالما اشترط التطبيع بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، قد سقط نهائياً...هنا أيضاً، يمكن توقع عودة الجامعة العربية لاستئناف أنشطتها، بما فيها عقد القمة الدورية في آذار/مارس القادم، من دون مقاطعة أحد أو "حرد" آخر.
يأخذنا ذلك، للبحث في مصائر "مبادرة السلام العربية" بعد قرابة عقدين على إقرارها في قمة بيروت 2002، فهذه المبادرة لم تعد أساساً للعمل العربي المشترك، حتى وإن أتى قادة عرب على ذكرها بين الحين والآخر، فبمجرد ترحيب دول عربية وازنة بالخطوات التطبيعية لبعض الدول الأعضاء مع إسرائيل، وعودة السلطة عن موقفها "المُجرٍّم للتطبيع"، تكون "المعادلة" التي نهضت عليها المبادرة، قد انهارت، وأي حديث عربي أو فلسطيني آخر، يمكن إدراجه في خانة "التضليل" و"النفاق" أو "خداع النفس".
على أن المبادرة المذكورة، لن تفقد معادلة "التطبيع مقابل الانسحاب" فحسب، ذلك أن أي تحرك مستقبلي لإدارة بايدن، لن يكون بمقدوره "القفز" من فوق الكثير من "الحقائق" التي فرضتها إدارة ترامب وحكومة نتنياهو على الأرض: "نقل السفارة، شرعنة الاستيطان، ضم الجولان"، والأرجح أن الحراك الدائر حالياً، سينتهي إلى صيغة وسط بين منزلتين: "ورقة كلينتون غير الرسمية" التي عرضت على الرئيس الراحل ياسر عرفات، في ختام كامب ديفيد 2000، و"صفقة القرن معدلة"، خصوصاً فيما يتعلق بالمساحة المتاحة للضم الإسرائيلي من الضفة الغربية، وبعض أحياء القدس الشرقية، وربما بإدخال ترتيبات إقليمية للمقدسات، تلحظ رغبة دول عربية، في الدخول على هذا الخط.
وفي ظني، أن "دفعة جديدة" من التنازلات الفلسطينية سيكون مطلوباً تقديمها على "مذبح استنفاذ الفرصة الأخيرة لاستنقاذ حل الدولتين"، وربما هذا هو المقصود بالحديث المتكرر الذي طالما قرع مسامعنا منذ الكشف عن "صفقة القرن"، عن حاجة الفلسطينية لعدم الاكتفاء برفض المبادرة الأمريكية، وضرورة تقدمهم بتصور جديد ورؤية بديلة...ومن نافل القول، أن التنازلات المطلوبة، لا تتعلق بملف "اللاجئين"، فهذا أمره مفروغ ومحسوم لصالح الرؤية الإسرائيلية و"منطوق الصفقة"، وليس لدى بايدن ما يقدمه هنا، سوى تشجيع أطراف ثالثة على فتح أبوابها لهجرة الفلسطينيين وتوطينهم، والضغط عليها، للتبرع "غير السخي" لإدارة صندوق للتعويضات، وإن بالحد الأدنى لها.
المطلوب من الفلسطينيين، وهو يستعدون لتقديم رؤيتهم الجديدة، الاستعداد لتقديم تنازلات جوهرية في ملفات الحل النهائي المرجأة منذ أوسلو: القدس (ومقدساتها)، الحدود، السيادة، المستوطنات، وغيرها...وسيكون بمقدور الفلسطينيين ربما الحصول على "أرخبيل" بعدد أقل من الجزر المعزولة، يسمى تجاوزاً "دولة مستقلة"، لكنها ستظل مع ذلك، أرخبيلاً.
أما عن "المؤتمر الدولي للسلام"، ذي الصلاحيات الكاملة، بوصفه إطار التفاوض ورافعته، فلا أظن أن الموقف الفلسطيني حياله، سيختلف عن موقف السلطة من أزمة "أموال المقاصة"، ولا أحسب أن رام الله أو أي من "عواصم الاعتدال العربي" بوارد الدخول في "جدل" مع إدارة بايدن، حتى لا نقول "صراع" معها، حول الرعاية الأمريكية المنفردة لعملية السلام...جُلّ ما يمكن للسلطة أن تنتزعه: "مؤتمراً افتتاحيا"، دون مستوى مؤتمر مدريد، يعقد لمرة واحدة، على أن تعود الأطراف بعدها للمفاوضات المباشرة، برعاية الوسيط الأمريكي المنفرد.
وليس مستبعداً أبداً، أن تقبل السلطة، خصوصاً إذا طرأ تغير على تركيبة الحكومة الإسرائيلية، إثر انتخابات مبكرة رابعة يحوم شبحها فوق إسرائيل، أو كنتيجة للمسار القضائي الجنائي الذي يواجه بنيامين نتنياهو، نقول ليس مستبعداً أن تنخرط في مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين، من دون وساطة أو وسيط...أليست هذه هي سيرة السلطة قبل قيامها "مفاوضات أوسلو"، وبعده، جولات التفاوض التي بلغت ذروتها مع إيهود أولمرت، من دون وساطة ولا من يتوسطون.
السلطة التي بدا لبعض الوقت أنها "شبّت" عن طوق أوسلو، تبرهن مرة أخرى، أنها غير قادرة "بنيوياً"، على "الخروج من جلدها"، ولا عن حاضنتها العربية: "معسكر الاعتدال"، ولا عن تشبثها بخيار التفاوض العاري والمجرد من أوراق القوة، سواء مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهي تعود إلى حاضنتها ومسارها، في وضع أضعف من ذي قبل وبشروط أكثر صعوبة، وبمطالب تقع ما دون سقف المبادرة العربية، بل وما دون "ورقة كلينتون"، وربما إلى صيغة معدلة من "صفقة القرن"، تبدو متاحة مع مجيء جو بايدن، ومرجحو إن انتهى الحراك الحزبي الانتخابي في إسرائيل عن ولادة ائتلاف جديد، وحكومة جديدة، أكثر واقعية ولو بقليل من الحكومة والائتلاف القائمين.
وسيتعين على السلطة، وهي تعود إلى معسكرها "الاعتدال العربي"، أن تدرك أن هوامش المناورة وحرية الحركة التي ستتمتع بها، باتت أكثر ضيقاً ومحدودية...وأن "عودة الابن الضال" لحاضنته، ستملي عليه احترام قواعد السلوك الجديدة، ومن بينها ما يمكن أن يمارس عليها من ضغوط "ذوي القربى" لإتمام الحل، وغالباً من ضمن الضوابط والمحددات التي أشرنا إليها...هنا نفتح قوسين لاستحضار فريدريش هيغل و"فلسفته عن "مكر التاريخ": فالقضية الفلسطينية قد تدخل "التعريب" مجدداً، بوصفه تعبيراً عن الهزيمة والانكسار، بعد انقضاء قرابة نصف قرن من "الفلسطنة" التي عُدّت انتصاراً مظفراً.
العوائق ما زالت على الطريق
السيناريو القاتم الذي أشرنا إليه، لا يعني أن طريق "الحل المنقوص" بات معبداً أمام السلطة...وثمة أسباب عديدة تدفع لهذه "النبوءة المتشائمة"، منها:
ذلك أنه سيكون مطلوباً من السلطة، أن تعمل على ترتيب بيتها الداخلي، "شرعنة المؤسسات" وإجراء الانتخابات وإنجاز المصالحة...فلا مستقبل لأية تسوية ولا أية "دولة" حتى وإن كانت منقوصة من عناصرها، من دون إنهاء الحالة الشاذة في غزة، وسيظل الانقسام، ذريعة يلجأ إليها الإسرائيلي والأمريكي، عند مواجهة مطلب الفلسطينيين بتقرير المصير والاستقلال، بل وسيقال للرئيس عباس إنه لا يمثل إلا جزءاً من الشعب الفلسطيني، وربما ليس الجزء الأكبر...مهمة ترتيب البيت الفلسطيني، بعناصره وأركانه المختلفة، لا تقل صعوبة عن مهمة إنجاز تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وسيتعين على أي مسار تفاوضي، أن ينتظر تقشّع حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تضرب النظام السياسي الإسرائيلي، وربما يصبح الاستعجال العربي في تمهيد الطريق أمام بايدن، بلا معنى، في ظل غيال حكومة إسرائيلية، وهي مهمة لا نعرف متى ستبدأ ولا متى ستنتهي، كما أنه ليس من المستبعد، أن يأتي الائتلاف الحاكم الجديد، أكثر يمينية وتطرفاً من الائتلاف الحالي، في ظل التقارير التي تتحدث عن تقدم "يميناه" بزعامة نفتالي بينت على الليكود بزعامة نتنياهو، وانقراض حزبي العمل وميرتس عن خريطة الكنيست القادم، وانقسامات القائمة العربية المشتركة، التي أضعت وستلحق مزيداً من الضعف بشعبيتها و"عدد مقاعدها"...هذا الحراك، قد يصطدم بغياب "شريك إسرائيلي" قادر على إتمام "رقصة التانغو" مع الطرف الفلسطيني والأطراف العربية.
ثالثاً: التحولات في المشهد الإقليمي، وكيف يمكن أن تنعكس على الديناميكيات الداخلية الفلسطينية، وعلى مواقف الأطراف العربية من المسألة الفلسطينية، سيما لجهة الأنباء التي تتحدث عن "مفاوضات تركية – إسرائيلية" تسعى في تسخين العلاقة الباردة، ومآلات العلاقة بين واشنطن وطهران، وهي تطورات قد تكون دافعة باتجاه الحل، وقد تفضى إلى تعقيده، فالأمر وقفاً في المقام الأول والأخير، على حسابات اللاعبين الإقليميين ومصالحهم.