بقلم - عريب الرنتاوي
كنت تلميذاً في الثالث الإعدادي في مدارس الأونروا في الوحدات (1970)، عندما سمعت لأول مرة باسم عبد الفتاح تولستان...مُحدثنا عن القائد الشيوعي (الشهيد)، كان الأستاذ فتحي الحلو مدرس مادة الرياضيات، وكان شيوعياً ناشطاً ومتحمساً، وقد أخبرنا كيف استشهد الرفيق تحت التعذيب، وكيف أن "المخابرات الأمريكية" هي من عمدت إلى تصفيته.
حديث كهذا انطبع في ذاكرة الفتى المراهق الذي كنت عليه، بحروف نافرة، وكان ينبغي أن يثير الرعب في نفوسنا، وأن يصرفنا عن العضوية المبكرة و"الاستثنائية" في صفوف الحزب، حيث لم نكن قد أتممنا أنا وجواد البشيتي، رفيقي في الخلية التي كان يرأسها الأستاذ الحلو، الخمسة عشر عاماً...لكن بدلا عن الخوف والاستنكاف، بتنا أكثر رغبة وإصراراً على "مواصلة الدرب الشائك، حيث تنتظرنا المصاعب الجسام".
وعندما نشر الزميل العزيز محمد خير الرواشدة، الحلقة الثالثة من حواريته مع دولة الرئيس مضر بدران، بتاريخ 27 يناير 2015 في الزميلة "الغد"، من ضمن سلسلة "سياسي يتذكر"، تحدث رئيس الوزراء الأسبق، عن واقعة استشهاد عبد الفتاح تولستان، أو هكذا ظننت، لأنه لم يستذكر اسم الفقيد في حينها، واكتفى بوصفه بأنه مواطن أردني من أصول شركسية، يسكن جبل التاج في عمان.
إلى أن صدر "القرار"، ليعاود بدارن سرد الواقعة من جديد في مذكراته الضافية، ولكن مستذكراً الاسم هذه المرة، فبدت القصة أكثر وضوحاً، ولم تعد مجرد استخدام مفرط للقوة في التحقيق وانتزاع الاعترافات، ليتبين أنها واقعة كان لها ما بعدها، وسنعرف من مذكرات بدران، أن المسؤول عن وحدة مكافحة الشيوعية في جهاز المباحث آنذاك، كان أمريكي الجنسية، من أصول شرق أوروبية كما يرجح صاحب المذكرات، ولا أدري أن كان عمله في الدائرة من قبيل "الإعارة" من جهاز "صديق"، وفي إطار التنسيق والتعاون بين جهازين أمنيين، أو أنه كان موظفاً متعاقداً مع الدائرة ويخضع لإمرتها.
وسنعرف أيضاً، أن شهادة تولستان، كانت سببا في وقف العمل بالأحكام العرفية، زمن حكومة سمير الرفاعي (الجد)، وأن دائرة المباحث، ستتحول إلى دائرة المخابرات العامة، وأنها ستخضع لإعادة هيكلة وتنظيم من جديد، وستعتمد وسائل أقل وطأة في التعامل مع المعتقلين والمطلوبين.
نعرف الآن، وبعد أكثر من نصف قرن على الواقعة، بأن حياة المناضل الشيوعي عبد الفتاح تولستان، لم تذهب هدراً...يكفي أن الأحكام العرفية التي اعتقل بموجب أوامرها، قد ألغيت (قبل أن يُعَاوَد فرضها من جديد)، ويكفي أن الدائرة التي تسبب بوفاته، قد تعرضت لإعادة هيكلة شاملة...هذا أمر لا يحدث دائماً، ولا يحدث في كل مكان من عالمنا العربي.
وأحسب أنني كنت مواظباً على قراءة كل ما يصدر عن الحزب الشيوعي الأردني (بشقيّه) من أدبيات ومنشورات، لكنني باستثناء كتابات الرثاء والتمجيد بمناقب الفقيد، الموجزة على أية حال، والموسمية في الغالب، لم أقرأ شيئاً ذا مغزى عن الرجل وعن الواقعة، وإن كنت دائم العودة إلى تلك الواقعة، سواء في معرض النقد لتلك الحقبة ولقانون مكافحة الشيوعية سيء الذكر، ومعه قانون أمن الدوائر والمصانع، وجميعها ألغيت بعد "هبة نيسان" واستئناف الحياة الحزبية والبرلمانية الأردنية في العام 1989، أو في سياق الإشارة إلى أنها الواقعة الوحيدة التي استذكرها لحالة وفاة تحت التعذيب في السجون الأردنية، سيما عندما كنا نتجال مع رفاق وزملاء عرب حول حال المعتقلات والسجون العربية...عبد الفتاح تولستان، الذي استشهد وأنا بالكاد أخطو أولى خطواتي إلى المدرسة الابتدائية في مخيم الوحدات، ظلت روحه تزورني بين الحين والآخر، وطوال نصف قرن على أقل تقدير.