بقلم - عريب الرنتاوي
1- استفاق العالم على نهاية الكابوس الذي أناخ على صدر البشرية لسنوات أربع عجاف ... مناخات الارتياح والانفراج تكاد تهمين على "القطفة الأولى" من ردود الأفعال الإقليمية والدولية ... حتى الذين يتحسبون لصولات وجولات من المعارك مع إدارة #بايدن – هاريس، لا يخفون سعادتهم بنهاية مرحلة أمريكية، حافلة بالعبث والفوضى والتصعيد وإثارة الانقسامات وتوتير العلاقات الدولية وتسميم التعاون الدولي المشترك في قضايا بالغة الأهمية والخطورة.
انتهى عصر ترامب، وما هي ألا تسعة أسابيع حتى يغادر البيت الأبيض، طائعاً أم مرغماً ... المسألة ليست اختياراً، فالنظام الأمريكي برمته على المحك، وما أن تحين لحظة الحقيقة والاستحقاق، حتى يجد ترامب أصدقاءه ومعاونيه وقد انفضوا من حوله، وبعضهم بدأ هذا المسار على أية حال، دون انتظار لنهاية عمليات فرز أصوات الناخبين وعدّها.
انتهى عصر ترامب، لكن "الترامبية" باقية في الدولة (بمؤسساتها) والمجتمع (تيار يميني – شعوبي) عريض وعميق، بدلالة هذا "التعادل" في نسبة المقترعين لصالح كلا المتنافسين، فليس بايدن وحده من سجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد "التصويت الشعبي"، ترامب كذلك، سجل رقماً قياسياً تاريخياً بحجم الأصوات التي حصل عليها، برغم خسارته للانتخابات.
2- سيظل حبل التكهنات بالأثر الذي سيحدثه فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية ممدوداً، وسنقرأ على مدى أسابيع وأشهر، مقالات وتحليلات تذهب في كل الاتجاهات ... في منطقتنا، يمكن الجزم بأن قائمة الفرحين برحيل ترامب تمتد من إيران إلى اليمن، مروراً بفلسطين والأردن والعراق، وإن بأقدار متفاوتة ... أما قائمة القلقين من هذا الانقلاب الأبيض (حتى الآن)، فتشمل كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وربما غيرها من الدول مثل تركيا، التي لا يبدو أن ثمة "كيمياء" تتفاعل بين زعيمها رجب طيب أردوغان والرئيس المنتخب جو بايدن... ثمة كثرة كاثرة من الدول في العالم، لا تبدو منشغلة كثيراً بنتائج الانتخابات، كونها غير مشتبكة مع الولايات المتحدة في أزمات مفتوحة كحال إقليمنا.
3- فلسطينياً، لا تُخفي السلطة ارتياحها الجارف لهذا التغيير في الإدارة الأمريكية، فهي دفعت مع إدارة ترامب، أكثر الفواتير كلفة، سياسياً واقتصادياً ومالياً ... ومنذ ثلاثين عاماً على أقل تقدير، لم يسكن البيت الأبيض رئيس ناصب الشعب الفلسطيني هذا القدر من العداء، وقدم لليمين المتطرف في إسرائيل هذا القدر من التبني لروايته للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والانحياز لرؤيته لسبل حله ... والأرجح أن كل فلسطيني سيكون سعيداً بغياب وجوه مثل كوشنير وغرينبلات وفريدمان، هذا بحد ذاته خبر جيد للفلسطينيين.
وسيتعين على الفلسطينيين الإجابة على سؤال: ما الذي يتعين عليهم فعله خلال السنوات الأربع القادمة، وكيف يمكن "توظيف" مناخات "الانفراج النسبي" المحيط بسلطتهم وقيادتهم، لتطوير مشروعهم الوطني والدفع به إلى الأمام، وترتيب بيتهم الداخلي ورسم طريقهم للمستقبل.
خياران فقط، لا ثالث لهما، بانتظار #الفلسطينيين: الأول؛ الانسياق مجدداً وراء سراب الأوهام والرهانات الخائبة، والتعويل على إنقاذ "حل الدولتين" عبر مسار تفاوض عبثي، جُرّب لأكثر من ربع قرن، وانتهى إلى ما انتهى إليه من أزمات مركبة ومتراكمة، مع كل ما يتطلبه ذلك من عودة إلى "التنسيق الأمني" الذي وإن تراجع نشاطه مؤخراً، إلا أنه لم يتوقف تماماً.
الثاني؛ استغلال مناخات الانفراج النسبي التي ستحيط بهم، من أجل: إنجاز المصالحة واستعادة الوحدة، الانتقال من اقتصاد الاستهلاك إلى اقتصاد الصمود، تعزيز المقاومة الشعبية السلمية، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الدخول في حوار وطني شامل لبناء توافقات عريضة حول إعادة تعريف المشروع الوطني، وإعادة بناء "النظام السياسي" الفلسطيني، وإعادة تعريف "أدوات الكفاح" في المرحلة المقبلة، وإعادة دمج حركة التحرر الوطني الفلسطينية بحركات الحرية والتغيير في العالم العربي، وبالصحوة الكونية ضد العنصرية واليمين الشعبوي، كيفية ملاحقة إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً وحقوقياً في مختلف المحافل والساحات، ودائماً بهدف "نزع شرعيتها" وإظهار الطابع "اللا أخلاقي" لمشروعها وسياساتها وممارساتها، وهو أمرٌ عَدّته إسرائيل، في صدارة قائمة التهديدات الأبرز لـ"أمنها القومي".
أي من الخيارين ستسلك السلطة في قادمات الأيام؟، لا يساورني الشك في أنهم سيسلكون الطريق الأول، فهم لم يغادروه أصلاً حتى يعودوا عليه، وفي ظني أن البنية الفلسطينية المؤسسية القيادية، فقدت قدرتها على انتاج خيارات بديلة بعد أن استهلكت نفسها وقضية شعبها في الرهان على "المفاوضات" كخيار استراتيجي وحيد...بيد أن الأمل معقود على النخب الثقافية والفكرية والحركات الشبابية والنسائية والجيل الجديد من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني، في الضفة والقطاع والقدس، كما في المناطق داخل "الخط الأخضر" وفي الشتات القريب والبعيد، من أجل استنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية وتجديدها و"تشبيبها" ... الآمال معقودة على قدرة هذا الشعب على تجديد نفسها وابتداع أدوات كفاحه وأشكال تنظيمه، وهي قدرة مترتبة على خبرة امتدت لأكثر من مائة عام، ويمكن الاستناد إليها لإدامة النضال الوطني الفلسطيني في مئويته الثانية.