عائشة سلطان
لم تتعب أمي أبداً وهي تحكي لي حكايات من ولوا وراحوا، حكايات من نوع أخبار الزمان وكان يا ما كان، لم تتعب ولم تمل، وأنا التي أظنني سمعت حكاياتها للمرة الخمسين بعد المائة، في الحقيقة هي لا تحكي على طريقة تمضية الوقت وملء الفراغ، أمي لا تؤمن بأن الوقت فراغ علينا ملؤه بالكلام، لكنها تؤمن بأن بين الإنسان ونفسه وما بينه وبين الآخرين مسافات علينا أن نتأملها بروية وأن نقطعها بفهم، وبيننا وبينهم أفكار تحتاج أن نعلنها بصوت عال، كي يستفيد الجميع ويتعلموا، فواحدة من طرق نقل المعرفة هي الكلام بصوت مسموع ومقروء معاً، ألق سلامك واكتب أفكارك وامض إلى خلودك الحقيقي !
تحكي أمي بذاكرة مضيئة، ووعي عميق حكاياتها كفلاح يزرع شجرة، تتأكد من حسن إصغائنا، لا توجه تنبيهات كتلك التي يوجهها المعلمون في المدارس، هي لا تلقننا درساً ولا تحفظنا قصيدة ، لكنها تهبنا ذاكرتها، تستأمننا أسرار عمرها، تضع في قاع قلوبنا صور أهلها وأصحابها والرجال الذين سمعت قصصهم وشهدت مواقفهم والنساء اللواتي تركن أثراً فيها ورحلن ولم ترحل أرواحهن ووقع خطاهن، لذلك فحين نستغرب أو نتململ، لأنها تعيد ذات الحكاية للمرة الخمسين، تقول أريد أن أتأكد تماماً أنني كتبت في قلوبكم ذاكرتي حتى آخر سطر، فهؤلاء الذين أُقلب أيامهم وأنبش أصواتهم وأردد كلماتهم وأفكارهم وما فعلوا وما قالوا معكم هم سيرافقونكم كما رافقوني وستحتاجونهم كما احتجتهم في لحظات كثيرة !
من مروا ومن رحلوا ومن راحوا لا يصيرون أحجاراً، ولا هواء ولا أوراقاً صفراء، إنهم نحن في ختام الحكاية وفي نهاية اليوم، فما نحن ومن نحن ؟ ألسنا جزءاً من أمهاتنا وآبائنا، وشيئاً من أجدادنا وقليلا من التاريخ وخليط من رائحة المكان والجغرافيا، ولذلك فما يمكن أن يدفع للتفكير والخوف ليس تكرار أمهاتنا وآبائنا لحكايات الذاكرة، ولكن ذلك السؤال الذي لا يغادرني : ترى ماذا سنترك نحن لأبنائنا ؟ ماذا يقول جيلنا لأطفاله ؟ لأحفاده ؟ ماذا يكرر عليهم وماذا يستأمنهم ؟ ذاكرة الحروب والإنكسارات والهزائم أم ذاكرة مدن الحديد والإسمنت والزجاج الصقيل والوجوه الباردة القادمة من جهات الدنيا الأربع، هذا إذا كان لدينا وقت للحكي، ورغبة في القص وحرص على حفظ الذاكرة !
الذين ينصتون اليوم لذاكرة آبائهم أو أجدادهم ربما يكونون آخر السلالة، آخر جيل ينصت لذاكرة ويتسلم تاريخاً شفاهياً يهبه إياه والده أو جده أو أمه، فالعابرون الجدد من أجيال هذا الزمان تنزلق كسحالي لزجة على أسطح المدن، تتنفس هواء أي مدينة وتسكن أي علبة وتأكل طعاماً بلا هوية وتمضي إلى مفرمة المؤسسة، تضع أعمارها باستسلام تام كل يوم، دون أن يعنيها كثيراً الوجوه والأفكار والقضايا الكبرى ومنظومات القيم وإنسانية البشر، كل يعنيه نفسه ومصالحه والباقي إلى الطوفان ، فأي ذاكرة يسجل هؤلاء وأي ذاكرة سيحفظون وسيورثون !
من كانت له ذاكرة فليكتبها، ومن ينصت لذاكرة فليحتف بها فربما كانت آخر حكايات الزمان البهي، وربما كان واحداً من آخر السلالة !!