بقلم : عائشة سلطان
جاء في كتاب «المعانقات» لإدواردو غاليانو، هذه الحكاية الشديدة الذكاء والرمزية: «في اليوم الأول من الدروس، أحضر الأستاذ دورقاً ضخماً، قال لميغيل بيرن ولبقية الطلاب: إنه مليء بالعطر، أريد أن أعرف مدى إدراك كل منكم، ارفعوا أيديكم حالما تشمُّون العطر، ثم أزال السدادة. بعد لحظات ارتفعت يدان في الجو، وحالا خمس وعشر وثلاثون. رفعت جميع الأيدي. طلبت شابة دائخة من العطر القوي: هل يمكن أن أفتح النافذة يا أستاذ؟ ردّدت عدة أصوات طلبها. فالجو الكثيف برائحة العطر، أصبح بسرعة لا يُطاق بالنسبة إلى الجميع».
أخيراً طلب الأستاذ من الطلاب أن يفحصوا الدورق واحداً بعد آخر. كان مليئاً بالماء!
قد يرى بعضكم أنها حكاية ترمز للخوف من الأستاذ، فكلنا نتذكر ذلك الأستاذ أو المعلمة التي كنا نرتجف لمجرد رؤيتها فلا نقدر على التفوّه بكلمة في حضورها فما بالك بمخالفتها. فريق آخر سيقرأ الحكاية كما عنونها غاليانو نفسه على أنها احتفاء أو دليل على عدم الثقة بالنفس، وهذا تحديداً ما يغرسه بعض المعلمين أو المربين أو الأهل في نفوس أبنائهم الصغار تحت شعار زائف هو التأدب والتربية!
وهناك بالتأكيد صوت يتململ ليهمس لي «وهناك رأي آخر»، نعم علينا أن ننصت لهذا الصوت الآخر الذي يرى أن الأمر لا يقود إلا لفهم واضح هو انعدام الحرية، خاصة أن غاليانو أحد أشهر كُتاب أمريكا اللاتينية، فانعدام الحرية هو السبب، الحرية الغائبة، المقصيّة وغير المرغوب في وجودها، لذلك فالطلاب لم يتمكنوا من إنتاج أو الإفصاح عن رأي آخر أمام رأي الأستاذ الذي هو الأب، والمدير والسلطة... إلخ، الحرية في أن يكون لك رأيك وفلسفتك الخاصة في الحياة والكون والسياسة وصولاً لمحتوى دورق صغير يعرضه مُعلّم في درس الكيمياء!