بقلم : عائشة سلطان
لماذا نسافر ؟ سؤال عتيق ومسافر في الذاكرة ، كقارب الجندولا الذي ابتكره أهل البندقية منذ القدم، كالطائرة والباخرة الضخمة التي ترسو في موانئ مدن المتوسط ، ينزل منها عشرات الرجال والنساء ليجوبوا تلك المدن طيلة النهار ثم يتسللوا إليها مساء ليغفوا ممتلئين بتفاصيل تلك المدن ورائحة البحر وعيون الصبايا، سؤال يشبه كل الناس ولا يشبه أحداً بعينه، فكلنا له إجابته التي تخصه ، والتي رسمت أسفاره وحددت الجهات التي ذهب وعاد منها ، سؤال يشبه البوصلة ويشبه الأحلام التي تسكن المخيلة عن مدن لم يزرها بعد، ومدن لم يتخيل أن يطأها يوماً، يقول شاعر تركيا الكبير ناظم حكمت:
«إن أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد
وأجمل البحار بحر لم ترتده أشرعتنا بعد
وأجمل الأنهار نهر لم يكتشف بعد ..»
بعد أسفار كثيرة في جهات الأرض أستطيع القول بقليل من المعرفة التي أتاحتها لي قراءة تاريخ المدن والناس، إن هناك دائماً مدناً أجمل لم نزرها بعد ، وربما نموت دون أن نتمكن من زيارتها، فالجمال جمال لأنه نادر، ومتفلت منا وعصي على التملك، وعلى أن نقبض عليه، فكلما بلغناه أو ظننا أو خيل إلينا أننا وصلنا إليه وأنه حان وقت التقاط الأنفاس، لاح جمال آخر بعيد ، لذلك فإن أجمل المدن مدينة لم نذهب إليها بعد !!
كنا صغاراً سمعنا من آبائنا الذين سافروا في رحلات التجارة والغوص عن أماكن ومدن مختلفة، كانت تلك المدن مجرد كلمات كنا نؤثثها بالصور وبالبشر، نرسم أشكال الرجال وثياب النساء وأسماء الأطفال فيها، نتوهم أشكال البيوت والمراكب والناس والأطعمة التي كانوا يأكلونها، بعض تلك المدن ذهبنا إليها حين كبرنا وشهق القلب دهشة، وبعضها لم يفعل، كانت مدناً بلا رائحة، سرقت الحروب والأوجاع والزحام وسوء الأخلاق روائحها وطعمها وتركتها أطلال مدن .. مع ذلك فيحدث أن تكون أجمل المدن هي تلك التي تذهب إليها مصادفة .
المدن التي تخطف القلب هي تلك التي لابد أن نعود إليها مجدداً، عن نفسي لم يخطر ببالي أن أدخل بيت وليم شكسبير يوماً، وحين ذهبت لمدينة ستراتفورد، وجدت بيته صغيراً جداً وغرفته بالكاد تتسع لحركة شخص واحد، كانت هناك تفاصيل كثيرة وصغيرة تعجبت كيف أمكن لأهل المدينة الاحتفاظ بها خلال قرون كدفتر المستشفى الذي ولد فيه مثلاً وسجلت فيه بيانات ولادته كاملة، مع ذلك فالمدينة كئيبة ليس فيها ما يدفعك للذهاب إليها مرة أخرى !