بقلم : عائشة سلطان
وما الدنيا سوى مدن تتقاذفنا، ومدن تنغرس في أرواحنا ولا تغادرنا، تسكن ذاكرتنا، وتصير جزءاً من أحلامنا، فإذا أردنا أن نتعرف على الحياة على حقيقتها تذكرنا مدن الشرق القديمة. وإذا أردنا أن نعب الحياة بلا تردد وبلا تنقيب في عروق الأيام الصعبة حضرت بيروت، والقاهرة وبرشلونة وروما. إذا فكرنا في الحنين حضرت جزر اليونان والمتوسط، فيحضر التاريخ ليسر في أذنك أن (أجمل التاريخ كان غداً).
هناك مدن تؤلمنا، تجرح أرواحنا لأنها لملمت أمسها ونبضها دون أن نتمكن من مد أيدينا لنمسها ونلمسها، وإن لأجل الذكرى أو البركة على الأقل : تلك بغداد ودمشق المدينتان اللتان تشكلان غصة المدن في داخلي لأنني لم أرهما رغم تطوافي مدناً بلا حصر.
وفي الحقيقة فإن حياتنا لم تصادرها مدينة بعينها، وذاكرتنا لم تحتكرها مدينة واحدة بما فيها مدينة المولد والنشأة. نحن لسنا أبناء مدينة محددة، نحن أبناء الحياة، والحياة ليست إلا مدناً بلا عدد، نحن أبناء كل مدينة تركنا فيها وقع أقدامنا، بصمات صوتنا، مواعيدنا في المقاهي، ضحكاتنا، لقاءاتنا. ألم تأخذ هذه المدن شيئاً منا؟ ألم تقبض على لحظة حقيقية من عمرنا؟ فكيف لا تكون مدينتنا وإن في تلك اللحظة الخاطفة؟ المدن ليست كالنساء فقط، المدن كالحياة، بل هي الحياة في أعمق معانيها.
ولا يتصور أحدنا أنه إذا أحب مدينة غير مدينة مولده، فكأنه خان مسقط رأسه، تلك سذاجة التأويل وقراءة المعنى، فأنت تحب ما يحقق لك احتياجاتك وأحلامك، وما يأنس له قلبك وتثق فيه روحك وإن ليومٍ واحد. إن مدينة صغيرة تحتفي بفرحك، وتقيم قداس حياة لأجلك لتمنحك متعة الوقت فلا تشعر أقضيت فيها يوماً أم أن ذلك اليوم كان شهراً.
هذا التكثيف للوقت يكفي لتحمل هذه المدينة في ذاكرتك ما حييت، وتظل تشاكس من كانوا في معيتك ذلك اليوم: أفعلاً كان ذلك الوقت يوماً؟ أجمل الأيام ما كان ممتلئا بالوقت العميق الذي بلا توقيتات ساذجة، و(أجمل التاريخ كان غداً)!
نحن لا نولد في مدينة واحدة، نحن نولد في كل المدن التي نسكنها، ونحبها، ونثق فيها، ونأمن إليها وفيها، أليس الحب ثقة وأماناً، أليست الولادة فعل حياة بدأ بالحب أساساً، ألم نخلق ونتخلق في لحظة حب؟ فالمدن التي نحبها هي تلك التي منحتنا حق الثقة فيها والاختباء في قلبها بأمان. وماذا نريد في حياتنا أكثر من الحب والأمان.