بقلم : عائشة سلطان
ما زلت أقول لأصدقائي الذين يسألونني عن أجمل المدن التي زرتها، أو عما إذا كانت ثمة أماكن أو مدن أحلم بالذهاب إليها، أنني لم أسافر كما ينبغي لمسافر أن يكون مخلصاً لترحاله، طالما خالط سفري ميل نحو التباهي أو العبث، فقد أيقنت متأخراً أن السفر علم عظيم توجه البصيرة دفته، ويقود التأمل خطاه في مسارات الأرض والجغرافيا، والبصيرة نعمة كبرى، كما التفكر، إنه إعمال للعقل بعمق لكل ما حدث وما هو كائن حولك. فقد يقودك حدسك لما يمكن أن يكون.
ليس السفر مثل القراءة أبداً، وإلا لاكتفينا من الأمر بالاطلاع على أعظم الكتب مندسين في الأسرة الناعمة والأرائك الوثيرة والغرف المكيفة. القراءة فعل ممتع يقود العقل بهدوء لبوابات الأسئلة وصولاً لمفاتيح المعرفة. أما السفر فهو فعل مواجهة ما وراء تلك البوابات، فعل معاينة الحقيقة، بملء إرادتنا وبكامل صورتها أحياناً. لذلك فأي سفر وأي ترحال، لا يقود لفتح أبواب موصدة في الذاكرة كما في الواقع، سفر لا يعول عليه أبداً.
لذلك ما زلت أقول لمن يسألني وأؤكد أنني كعربية مغروسة حتى أذنيّ في طين عروبتي الذي تشكلت منه، لا أعتبر نفسي قد طرقت بوابات حقيقية، طالما لم أقف على بوابات دمشق، ولم أفتح أياً من بوابات العراق، هذه حسرة في قلبي أجدها وأتلمسها كل يوم، وأنا أتابع تشظي العراق وجرح دمشق النازف. أما وقد كان من أمر البلدين ما كان، فلا بأس من الإخلاص للذاكرة، والأمل معاً، لعلّ وميضاً يخرج من أرضٍ كمصر يمحو آثار المغول والتتار، أو لعلّ التاريخ يعيد نفسه.
قال صديق عراقي معلقاً (العراق؟ كان يا ما كان) قلت له «في جميع الأحوال علينا أن نبقى مُخْلصين للذاكرة.. طالما عجزنا أن نكون مُخَلصين، ومخْلصين للجغرافيا والتاريخ.» ولقد سمعتُ أبي محدثاً من كان متحلقاً حوله بعد عودته من سفر بعيد، وكنت طفلة لم أتجاوز السادسة بعد: «يموت حسرة من لم ير العراق ولم يزر البصرة».
لقد قال عمر عناز وأبدع: من لم يذقْ طعمَ العراق، فمالهُ من قهوة الأحزان غير الرائحة، من لم يمتْ موتاً عراقيــــــــاً.. تُقَصّـرُ بالنواح على ثراهُ النائحة.
«إنَّ العراقَ حكايةُ الجرح الذي ينمو على رمل الأماني المالحةْ».
إنه ليس من العبث أن تكون دمشق عاصمة أول إمبراطورية للعرب، كما ليس من قبيل الصدفة أن تكون بغداد عاصمة إمبراطوريتهم الثانية، وأن تكون القاهرة في كل التاريخ صمام الأمان وحارسة العروبة، وخزان المواجهة، وبالتأكيد فإنه ليس مما لا يسترعي النظر أن تتم المحاولات دوماً على أرضية تفكيك وإضعاف وتدمير هذه العواصم بشكل متزامن ومتتابع وملح!!