عائشة سلطان
أن تفتح عينيك فإذا أنت أمام واد بلا قرار وسماء مفتوحة حتى ما بعد نهاية خط السماء، وأن يكون أول ما تتناوله في صباحك هو القهوة وأول ما تشمه هو رائحة الزعتر وزهور الجبل، ودخان السجائر، وأصوات النساء يتبادلن التحايا، فأنت بلاشك في قرية جبلية من قرى لبنان تسكنها تفاصيل كانت ولا تزال تعبق فيها منذ عشرات السنين!
أن تستغرق المسافة نصف نهار من منطقة ما إلى منطقة أخرى قريبة جدا تدعى «الحمرا» فأنت في بيروت، وأن يعرف الناس كيف يمسحون همومهم بالغناء وكيف يحتفون بالحياة رقصاً وكيف يعلون صوتهم بالحديث عن الديمقراطية ثم يورث الأب حزبا بأكمله لابنه ليتدرب بضع سنوات كيفما اتفق فيصبح بعدها رئيسا للبنان إن نجحت معادلة المصالح والاتفاقات فأنت في لبنان حتما، وأن يجلس الشيوعي إلى جانب التاجر الرأسمالي وبجوارهما مثقف عراقي وصحفي سوري وشاعر عراقي لا يزال يحكي عن أمجاد عبدالناصر وفضائل بغداد على مقهى أميركي خالص، فهذا يعني أنك في بيروت، لأنها المدينة العربية الوحيدة التي اتسع كتفها دوما ليبكي عليه الجميع، واتسع قلبها دوما ليسكب فيه كل العرب آلامهم وهمومهم وهزائمهم، فيجتمعون على مقاهيها ويتفرقون على صفحات جرائدها!أن تجلس إلى شاعر مسيحي خالص، كان قاب قوسين أو أدنى من أن يكون خوريا أو رجل دين، فيمعن في كتابة الشعر ويلتحق بالجامعة ليدرس علم الأديان المقارن ثم يغير بوصلة حياته، فيتزوج وينجب ولدا يسميه «عمر» حبا في الخليفة الفاروق عمر ويتباهى بذلك، كما يتباهى بتواضع جميل بغزارة المعرفة والإلمام بكل تفاصيل الدين والمذاهب والفروقات الطائفية وكل تفاصيل التاريخ لشخصيات الدين الإسلامي بشكل مثير للإعجاب، فهذا يعني أنك في جبل لبنان وأن لبنان الذي يغوص عميقا في الطائفية لتحتمي كل طائفة بقوة علاقاتها ونفوذها يمكنه أيضاً أن يبتعد عن شوفينية الطائفة ليمتلك اتساع المعرفة وحيادية العلم!
لبنان بحق بلاد التناقضات، الجميل منها وغير الجميل، لكن حتماً كل ما في لبنان لا يمر عليك مرور الكرام فإن لم تعجب به فإنك ستتعلم منه بلا شك!