بقلم : ناصر الظاهري
مثل مسافر حالم.. كأن بينه وبين القدس شبراً! رأيت فيما يرى النائم، وكأن الوقت كان علينا ربيعاً، وكان اليوم يوماً قدسياً في صلاته ودعائه، وكأني بين المسافر على جناح غمامة والحالم ببراق يطير، لقد كان بيني وبين القدس شبر، وكان هناك طريق غير سالك من باب الخليل، ثلة من جنود صغار ملامحهم من جهات ثلاث مختلفات، عرفوا الخوف في صغرهم، وحدها آلات القتل تضبّع للعمر الصغير أن يجرب مرة واحدة فقط معنى القتل، تحاذي الجدار ذا الصخر التاريخي، حاضن القدس العتيقة، تهبط نزولاً إلى صحن ساحة باب العمود، تتخيل سحابة ظل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، داخلاً هذا الباب على جمله، مطأطئاً رأسه الحكيم، ومرة.. تسمع همهمات خيل الفتح لصلاح الدين الذي لم يجعله زهو الانتصار يدخل إلا راكعاً، قائماً، باسطاً يديه، مؤمناً الآخر من أذى سيفه.
ترهب الدخول، يجفل القلب الشغوف بهذه المدينة، تتوقف عند بائع العرقسوس والتمر حنا، تأنس بوجه الكنعاني من وحشة المكان، ورهبة التاريخ، ترطب قلبك بشرابه الفردوسي البارد، ينظر إليك بائع الكعك من هناك، تفهمه بعينك، وإشارة من يدك، أنك شبع، وأنك كأنك أكلت من كعك القدس، ربما من عند فرّان في المصرارة، أو في نزلة سفيان الثوري.
تدخل برجلك اليمين مبسملاً، ومحوقلاً، ومهللاً، يشعر التجار القدامى في ذلك المدخل، الصراف، العطّار، أن الخطوة غريبة، وأن التلفت باندهاش، لشخص غريب، وجديد على السوق، وأن الفرح الذي يزاغي صدره العاشق، تفضحه العيون الصبيانية، تبدو المصافحة الأولى لهذا المكان صادرة عن شخص طال به البعد أو لم يسعفه اللعب بالجغرافيا أن يعرف، ويتعرف على مدينة طالما كانت لصيقة بالقلب، وبعيدة عن الجناح.
تدلف ذلك المتعرج، والممشى الحجري من عهد باد أو عهد عاد، تلتقي بوجه عربي مقدسي، بشماغه الأبيض وعقاله الأسود، فلا تعرف أن تميزه، هل هو من بقايا الفاتحين الأُول، جاء أجداده يترادفون المطايا مع الصحابة؟ أم هو من بقايا الجيوش الناصرة؟ أم يمتد جذراً وجذعاً في تاريخ موغل في القدم، كقدم شجرات الزيتون الرومانية.
يحاذي كتفك كتفه، غير أن السنين عكفت قليلاً من استقامته، وطوله، يجول بعينه الرماديتين الباردتين، ويحاول أن يتذكر، ويقول: «مرحبا يا ابني»! «أهلا يا حاج، كيف صحتك»؟ «من الله.. بخير» ويمضي، تدرك شيخاً آخر يتوكأ على غصن زيتون يابس، بلباسه العربي، وكأنه حارب في الثورة العربية الكبرى، ومكث هنا، مغيّراً بندقيته، يتأمل الزيتون حتى سرقت عيناه من لون الزيتون حُسناً، تشد على يده، مصبّحاً: «كيف يا خال..»!