بقلم : ناصر الظاهري
مثل مسافر حالم.. كأن بينه وبين القدس شبراً.. تسوقك الدهشة والتأمل، ولحظات من عدم التوازن على قدمين كلّتا من السفر والتعب، تدور عيناك يمنة ويسرة، تتفحص الوجوه المارة العجلى أو وجوه البائعين في الحوانيت، والمنادين في الأسواق، يهود ربما حريديون، أو سفارديم، بقبعاتهم السوداء، وجدائل شعر أسود فاحم أو محمر تتدلى على الأكتاف، أطفال صغار بـ«الكيباه سروجاه»، تراقب مشهد رهبان مسيحيين بملابسهم الثقيلة السوداء، ونعمة البشارة على وجوههم، حجاج بيت المقدس، يلوذون بكنيسة القيامة أو عائدون للتو من زيارة كنيسة البشارة في الناصرة، جميعهم جاءوا يوفون بنذورهم.
تسمع نفير بوق قرن العجل من جانب قصي، ويهود ملتصقون بالحائط، يتمتمون، وينوسون برؤوسهم إلى الخلف والأمام، يتلون مزاميرهم، ويدخلون في شقوق الجدار أوراقاً صغيرة، يخبئونها مع الأمنيات، والحكايات الضائعة.
لا تعرف كيف ترى هذه المدينة من داخلها أو خارجها؟ أبو علي بائع الصحف والكتب، الشاهد على المدينة وأحداثها، أبو الفضل الطويل بسيارته البيضاء ذات اللوحة الصفراء والذي يمكن أن يجنبك زحام القدس أو يدّلك على الخطوط الرفيعة اليوم بين حدود 48 و67 أو كيف تمددت إسرائيل بوطأة التاريخ على جسد جغرافية القدس وتسلقت جبالها.
تدخل شاقاً السوق، باعة الخضرة والفواكه، يصيحون: «تفضلوا يا عمي..».
تجتاز الأزقة الصغيرة، طريق قناطر خضير، باب السلاسل، غرفتا صلاح الدين، هما كل بيته، له ولخادمه، تبحث عن «زلاطيمو» محل الحلويات القديم، تشتهي مطبقاً بالجبن والعسل أو القطر، تلك الرغبات الطفولية المتمرغة بالسكر، ترافقك لكل المدن، تسلم على وجه عجوز ترف بالبشرى، وكأنه جار لصحابي من الأنصار، تسلم عليه وتقول: «وصفوا لي مطبق حلوى من الذي تعملونه منذ القدم على خشب الزيتون أو الحطب».
تدلف الدكان الصغير، فإذا هو يخبئ مكاناً واسعا، وتسأل البائع التسعيني: «يا عم.. من كم سنة، وأنت في هذا المكان؟».
«كان لأبوي زمان، عمره اليوم فوق المية وخمسين سنة، أولاد أعمامي هاجروا لبلاد كثيرة، وأولادي في الأردن، وإلنا عوايل في الخليج».
تودع البائع العجوز، وتسأله عن الطريق الموصل لمسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، تحوّل مقصدك نحو المسجد العمري، المطوق بسلك شائك حديدي على بابه، ومكتوب عليه: «ممنوع لغير المصلين»، تجوس تلك الطرقات الحجرية القديمة التي تمنيت ساعتها لو أنها لامست مطراً، فاعطتك تلك اللمعة التي تعشقها في مدن التاريخ، وكيف وهي القدس.. الراقدة في حضن التاريخ، والتي أخلّت بتوازن تلك القدمين ساعة وطئت أرضها، وقلت: بسم الله..