دينٌ حسب المزاج

دينٌ حسب المزاج

دينٌ حسب المزاج

 صوت الإمارات -

دينٌ حسب المزاج

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

لا عيب في أن تفشل أحياناً بعد أن كنت ناجحاً، ولا تثريب عليك إن سقطت ما دمت تقوم من جديد كل مرة لتحاول مرة أخرى، فالحياة سلسلة لا تنتهي من التحديات، وما تعمل مِن أجله يعمل للحصول عليه آخرون كذلك، وما يهم فعلاً أن لا تختلط عليك الأمور فتعرف ما كان سبب نجاحك وما هو سبب إخفاقك، وأن تُدرِك مَن هو صاحبك ومَن هو عدوك، وأن تعي أن تمام العقل أن لا تأخذ الرأي من خصمك ولا تبدأ في الشك بنفسك لمجرد أن أبواقه لا تتوقّف عن محاولة إقناعك أنّ القمة قاع وأنّ الملح سكّر!

تستشري هذه الأيام محاولات مسعورة لإحياء شُبهات المستشرقين وخصوم الإسلام عن الإسلام، واللافت هذه المرة أنّ من يحمل راية هذا الهجوم الشرس هم مِن أبناء جِلدتنا، لكنهم يملكون حماساً لم يملكه أصحاب الشبهات الأصليون، ويحملون ألسنةً لاذعةً بذيئة الطرح والنقاش بطريقةٍ لا يقبلها على نفسه مَن يجعل الفِكر شعاره والمنطق لباسه ودثاره، وبذاءة الطرح وسلاطة اللسان هما نتاج ضعف الحُجّة وهشاشة التأصيل العلمي والتربوي لأولئك الأشخاص مهما أسبغوا على أنفسهم من الألقاب الـمُلّمعة أو الشهادات الوهمية !

إنّ أسطوانة «تنقيح الموروث» أو«مراجعة التراث» وأمثالها من العبارات الرنانة، لا تهدف فعلاً إلا لنسف نصوص الإسلام من أساسها، فالبداية كانت في السخرية من بعض فتاوى الفروع الفقهية لتجرئة أصحابهم على ما هو أكبر من ذلك لاحقاً، ثم انتقلوا للهجوم على الإمام الشافعي بغرض الطعن في علم أصول الفقه وبأنّه «صادَر» الفكر بتلك القواعد التي وضعها، ثم انتقل العبث للسنّة النبوية بالسخرية من بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة لهزّ هيبة السنّة، وعندما انكشفت لُعبتهم تجرأوا في الطعن في صحيحي البخاري ومسلم ليس وفق ضوابط علمية أو منهجيات دقيقة وإنما بناء على ما «عقلي لا يقبله»، ولن تتوقّف الأمور هنا لأن الغرض الرئيسي لهذا السُعار المحموم هو الوصول للطعن في القرآن الكريم نفسه !

ردّاح وتنقيح التراث لا يتوقفون عن التباكي على رَكْب الحضارة الذي يكاد يفوتنا بسبب هذا «التراث»، وأنّ خلاصنا الوحيد من مستنقع التخلّف هو بوضع نصوص الدين تحت رحمة «مزاجهم» وأهوائهم ليختاروا منها ما يشاؤون ثم يقودوننا لكي ننافس دول النخبة!

هؤلاء لا يملكون مشروعاً حضارياً إطلاقاً، ووجودهم محصورٌ مكانياً في دولنا المسلمة ومحصور زمانياً في قدرتهم على النجاح في تشكيك الناس بدينهم ثم سيُرْمَون ليأتي غيرهم لإكمال المراحل اللاحقة في مشروع التغريب ونسف هوية الأمّة تماماً حتى لا تقوم لها قائمة، وكلما رأيت جَلَبة هؤلاء على نصوص الدين تخيّلت أنّ الإمام البخاري يقف أمام المصانع ليمنعهم من الاختراعات، أو أن الشافعي وجهوده في تأصيل الفقه تجعل معادلات الكيمياء تخرج مقلوبة، أو أن منهجية الشاطبي في مقاصد الشريعة تُعطّل عليهم شبكة الانترنت!

أسوأ أنواع الحماقة أن يدّعي الأحمقُ الذكاء، وأنْ يتقوّل على العلوم الدينية مَن لا يعرف شيئاً عنها سوى ما يصله من رسائل «الواتساب» لكي «يُلَعْلِع» بها ليل نهار، فإنْ نُوقِشَ فيها وشَعَر بحتمية إفحامه من المختصين بها، بادر للوقيعة فيهم بلسانه السليط من حسابات وهمية أخرى!

لم يكن الإسلام يوماً ضدّاً للعلم، بل العكس تماماً فأول كلمة نزلت منه كانت «اقرأ»، ولا تكاد تمر بك سورة إلا وبها الأمر الإلهي بالتفكر والنظر في أحوال الأمم السابقة وآيات الكون ونواميسه، وما دامت نصوص الدين في قمّة قوتها وشبابها قد ساهمت في سنوات معدودة لقيام دولةٍ تمتد من شرق قارة آسيا مروراً بكامل شمال إفريقيا إلى غرب أوروبا وتقيم بها حضارة عظيمة، فكيف يتهمها ساذجٌ الآن بأنّها سبب تخلفنا!

سأضع هنا بعض أقوال الغربيين ممن أنصف هذه الأُمّة رغم بُعْده عنها عقيدة ووطناً، فالكاتب الروماني الكبير قسطنطين جيورجيو يقول:«لا يمكن أن نجد ديناً يحتل العلم والمعرفة فيه محلاً بارزاً كما كان الأمـر في الإســلام»، أمّا المؤرخ الإنجليزي ويلز فيقول: «كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام»، أما ليوبولد فايس فيؤكد:«نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري، بينما كنا مثالاً للهمجية»، بينما يشير الكاتب الفرنسي أناتول فرانس إلى حقيقة دامغة يبرزها بعبارته:«في الإسلام لم يُولّ كل من العلم والدين ظهره للآخر، بل كان الدين باعثاً على العلم»

دين باعثٌ على العلم، دين متجدّد بذاته، لكنه التجدّد الذي لا تحركه الأمزجة ولا تعبث به الأهواء، دينٌ عَصِيٌ على التحريف، ممتنعٌ عن التمييع، كان ولا زال يحمل أسس الحضارة وبِذْرَتها وعوامل دوامها، ذاك مالا يدركه الـمُغيَّبون واللاهثون وراء خصوم أُمّتهم، لكن يُدركه مفكرو الغرب الـمُنصِفون ويعلمون أنّ عودة شمس الإسلام للشروق قريب، فها هو المفكر الفرنسي الراحل إرنست رينان يقول: «ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد، إنّ فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوروبا المتعجرفة»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دينٌ حسب المزاج دينٌ حسب المزاج



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates