العيش والخبّازون

العيش والخبّازون

العيش والخبّازون

 صوت الإمارات -

العيش والخبّازون

بقلم: عبد المنعم سعيد

بعد يومين، سوف تحل الذكرى الثالثة عشرة لثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وليس صحيحًا أنه لم يبقَ من الحدث الجلل إلا يوم الإجازة وإشارة فى الدستور إلى منابعه؛ وإنما أنها وضعت جذورًا لأمرين: أولهما أن ما كان قائمًا من نظم وأوضاع وما استُند إليه من تقاليد وأعراف لم يعد جائزًا استمراره؛ وثانيهما أنه لابد من تغيير ذلك كله إلى أمر آخر. النظرة إلى هذا «الأمر الآخر» جرت فى ثلاثة طرق: أولها قِدم الشعارات التى بدا أن الثوار يلتفون حولها، وهى «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، وكان هذا الشعار الأخير مرنًا يتحول إلى «الكرامة الإنسانية» أحيانًا، أو ينضم إليه أحيانًا أخرى؛ ولكن أحدًا فى كل الأحوال لم يهتم بمعنى ذلك. صحيح أن جميع الثورات عرفت شعارات تمثل قيمًا عليا، ولكن الخبراء والمُشرِّعين من الثوار يأخذون فى شرحها، وتأليف الكتب حولها، أما السياسيون فإنهم يأخذونها نبراسًا لمشروعات وقوانين ونظم وطنية. ما جرى فى الميادين لم يكن كذلك، وإنما باتت «الفوضى» واستمرار التظاهر والبقاء فى الاعتصامات هى القاعدة بغض النظر عما إذا كانت هناك نقطة بداية للانطلاق، أو نهاية لما يجرى وتبديله بما هو ضرورى. وثانيها كان العكس، فقد كان هناك مشروع سابق التكوين، «إسلامويًّا» فى العموم، ولكن مخطوطته الأولى كانت النموذج الإيرانى، الذى بات عمره وقتها يزيد على ثلاثة عقود؛ وفيه لم تكن الدولة تقوم على التشريع، وإنما على الفتوى. وثالثها كان التوجه الإصلاحى الذى بزغ متأخرًا، وبعد ثورة أخرى جرت فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، والذى اتفق مع سابقيه فقط فى أمر واحد، وهو أن ما سبق عهد الثورات لم يعد ممكنًا، ولا ينبغى تكراره، ولابد من تخطيه. فى هذا التوجه ساد الحذر من الشعارات الثورية، والرفض للسيطرة الثيوقراطية، والرغبة فى التواجد داخل العصر بقدر كبير من البراجماتية، التى تُستَمد من التجربة الآسيوية بعد انتهاء الحرب الفيتنامية. ما جرى ذكره كان السعى إلى بناء الدولة الوطنية بما فيها من هوية سياسية على سبل العيش والانصهار فى مصالح وطنية؛ كما عملت على اختراق إقليم الدولة للاندماج الجغرافى وتعبئة الموارد القومية، وباتت لديها مشاركة فاعلة من شباب جاء إلى عصر جديد.

حدث ذلك كله، بينما واجهت مصر الإرهاب بكافة أشكاله، ومن بعده جائحة الكورونا، وما إن استعدت مصر للانتعاش بعدها إذا بها تواجه الحرب الروسية الأوكرانية ومن بعدها حرب غزة الخامسة. كانت لهذه الأزمات الأخيرة نتائج وتراكمات سلبية على الدولة المصرية أسفرت عن أزمتين حادتين: الأولى ذات طبيعة «جيوسياسية» و«جيو استراتيجية» تهدد الأمن القومى للدولة، وتظهر الآن فى التهديد الناجم عن التهجير القسرى للفلسطينيين إلى صحراء سيناء، وتهديد الملاحة الدولية فى البحر الأحمر، ومن ثَمَّ قناة السويس، التى حققت خلال عام ٢٠٢٣ دخلًا قدره ٩.٤ مليار دولار، وبات متوقَّعًا تجاوزها إلى أكثر من ١٠ مليارات دولار خلال عام ٢٠٢٤. والثانية أزمة اقتصادية طاحنة تتعلق بسعر الصرف وانهيار قيمة الجنيه المصرى، ومع العجز فى كافة المقاييس الاقتصادية من الموازنة العامة إلى ميزان المدفوعات إلى الميزان التجارى، مع أزمة مديونية تبلغ ١٦٧ مليار دولار تضغط بأصولها وفوائدها على الحكومة المصرية والمواطنين المصريين والتضخم وارتفاع الأسعار فى الطاقة والسلع الأساسية، مع تراجع ملموس للمكانة الاقتصادية فى التقارير الدولية.

ما هو أدعى إلى القلق فى الأزمتين أن الأزمة الأولى تحتوى على مجمع أكثر الحروب شهرة فى النظامين الإقليمى والدولى، والتى بدأ أوارها وسعيرها مع هجوم حماس على غلاف غزة فى السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وما أعقبه من هجوم إسرائيلى ساحق على كل غزة، وما صاحبه من هجمات للضبط والمقاومة بين إسرائيل والضفة الغربية، وحرب محدودة ومحسوبة- أو هكذا يُقال- على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية، وأخرى على الجبهة السورية الإسرائيلية. هذه حرب تُستخدم فيها الصواريخ والمسيرات، وتجوز فيها اغتيالات القيادات؛ والجيش النظامى الوحيد فيها هو الجيش الإسرائيلى، أما ما عدا ذلك فهو ميليشيات حزب الله اللبنانى، وحماس فى سوريا ولبنان. وبينما كل هذه الحروب على «البر»، فإن حرب «أنصار الله» الحوثيين فى اليمن تجرى فى البر والبحر؛ وهى منشغلة بالحرب الأهلية داخل اليمن، والدولية مع أساطيل «الازدهار»، التى جيّشتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع أربعين دولة أخرى. الحرب هنا مشاركة مع حرب غزة فى أنها تفعل ذلك من خلال إعاقة الملاحة والتجارة الدولية وفرض الحصار على قناة السويس المصرية. وتتداخل مع هذا المجمع حرب إقليمية ودولية أخرى، هى التى تشنها قوات «الحشد الشعبى» الشيعية العراقية على قواعد الولايات المتحدة فى العراق وسوريا، مما أدى إلى قيام الولايات المتحدة بضرب هذه الميليشيات، وفى المقابل احتجاج الحكومة العراقية نظرًا لأن هذا القصف اعتُبر اعتداءً على السيادة العراقية.

الأزمة الثانية تمس الداخل المصرى بقوة، ورغم أن العام المنصرم شهد حوارًا واسعًا بين القوى الوطنية، وحوارًا اقتصاديًّا بين الخبراء والمختصين فى الأمور الاقتصادية، وانتهى بانتخابات رئاسية أسفرت عن التفاف شعبى حول القيادة السياسية للرئيس عبدالفتاح السيسى؛ فإن ذلك كله يفرض الآن ليس بحث القضايا أو إبداء الرأى حولها، وإنما طرح السياسات ووضعها موضع التنفيذ. ودون أى تقليل من الجهد الذى بُذل خلال السنوات العشر السابقة، وفى الواقع فإن ما تم إنجازه بالفعل هو الأمر الذى يستمر العمل فيه الآن؛ فإن مرحلة جديدة من العمل الوطنى باتت مطلوبة، ليس فقط من خلال ما سبق قوله عن «تشغيل التغيير» بمعنى الاستغلال الأمثل لما جرى إنجازه، أو تحت الإنجاز، من صناعة وزراعة وخدمات؛ وإنما أكثر من ذلك وجود مقتربات جديدة لتحقيق هذا الهدف والإضافة إليه. وبصراحة أولًا: لابد من افتتاح جميع المشروعات التى تم الانتهاء منها، بعد أن توجد على رأسها إدارات تختلف عن تلك التى أنشأتها لأنها أكثر قدرة على معرفة الأسواق وفتحها والمنافسة فيها. وثانيًا: قانون الإصلاح الإدارى للدولة بات ضروريًّا، حيث وقتها سوف يكون ممكنًا للدولة أن تكون أشد كفاءة فى دور المنظم وليس المشغل والمنتج بالضرورة. وثالثًا: المثل المصرى الشائع عن إعطاء صناعة العيش لمَن يقوم بإعداده وخبزه، أى الناجحين فيه، يصبح واردًا بشدة. وربما كان هذا المثل أشد مصداقية فى العودة إلى ما جاء فى شعار ثورة يناير عن «العيش» لكى يعنى الكفاءة فى الإنتاج والتوزيع والتسويق إلى آخر مكونات العملية الاقتصادية. ورابعًا: آن الأوان لتلبية الرغبة المصرية خلال هذه المرحلة فى أن تكون هناك رؤية متكاملة وتفصيلية لما سوف يحدث خلال عامى 2024 و2025 من إجراءات وقيادات تناسبها. وخامسًا أن إحدى أهم مميزات المرحلة الماضية مقارنة بما سبقتها هى السرعة فى الإنجاز، ومعرفة أن التأخر فى العملية الإصلاحية سوف يجعل كل الأمور أكثر تكلفة

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العيش والخبّازون العيش والخبّازون



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates