بقلم - عبد المنعم سعيد
إذا كان التصنيف جاريا بين المتفائلين والمتشائمين، فإن كاتب السطور يقع في معظم الأحوال في الطائفة الأولي؛ ولكن ذلك عادة عندما يكون الحديث عن انطباعات أو تسجيل تأثير الوهلة الأولي من حدث ما. أما إذا كان في الأمر ما يتضمن الحكم علي أشياء فإن الأفضل دائما أن يكون الحكم علميا مستندا إلى أرقام وحجج وبراهين وآراء مختصين لهم في الأمر باع طويل. وعندما أجد في ساحة العالم ما يمكنه التأثير على مسيرتنا المصرية، فإن نوعا من الواجب يفرض طرحه على الساحة السياسية والاقتصادية؛ وهذه المرة فإن ما نحن بصدده يتعلق بما نشره د.محمد العريان في دورية «الشئون الخارجية» الأمريكية ذائعة الصيت. وفي البداية فإن الاقتصادي ذا الأصول المصرية لا يقل ذيوعا في الصيت عن الدورية التي نشر فيها مقاله قبل أسبوع بعنوان «ليس مجرد انكماش (اقتصادي) آخر؛ لماذا الاقتصاد العالمي لن يعود أبدا كما كان؟» والحقيقة أن صاحبنا لم يخف عنا آراءه من قبل، بل إن أطروحته في المقال الذي تناوبت عليه دوائر إعلامية وصحفية عديدة بالشرح والتحليل، كانت هي الخطاب الذي جري به افتتاح «الحوار الاقتصادي المصري» الذي انتهي منذ أسابيع قليلة. في هذا الخطاب فإن ما جاء فيه كان معبرا عن عنوانه «آثار الأوضاع الاقتصادية الدولية على الاقتصاد المصري». ما جاء في الكلمة عن اقتصاد مصر كان قليلا، أما عن العالم فقد كان رغم قصر الكلمة نوعا من سلسلة رسائل هي أقرب إلى رصاصات التحذير ليس من تغيرات مهمة، وإنما من تحولات كبيرة أغلبها مر وعلقم. والمؤسف أن هذا الخطاب لم يلق الاهتمام الذي يستحقه، وفي حدود ما تابعت في الحوار فإن ذكره لم يأت ولو مرة واحدة. ورغم أن المؤتمر سلم تسليما كثيرا بأن الأزمة الاقتصادية المصرية في أغلبها تعود إلى الظروف العالمية، فإن الاهتمام لم يشمل ما الذي سوف يترتب على هذه الظروف خلال المرحلة المقبلة من تحولات لابد من أخذها في الحسبان.
الرجل الذي رأس مجلس التنمية العالمية في عهد الرئيس باراك أوباما، ورأس العديد من المؤسسات الاستثمارية العالمية، طرح في مقاله أن هناك ثلاثة تحولات مهمة جارية في الاقتصاد العالمي. الأمر المهم في هذه التحولات أنها ليست مجرد تعبير عما اعتاد عليه العالم واقتصاده من دورات بين التضخم كما هو حادث الآن، والانكماش كما يتوقع الجميع، وفي الحالتين يمكن معالجتهما خلال فترة قصيرة أو معقولة. هذه التحولات وفقا لصاحبنا سوف تقلب الاقتصاد العالمي رأسا على عقب. أول التحولات تولد عن تأثيرات الجائحة بما أدت إليه من منح نقدية لإبقاء الاقتصاد متحركا في دول العالم نجم عنه أن الطلب بات زائدا على العرض. ولم يكن ذلك ناجما عن الكورونا وحدها ولكن أضافت له الحرب الأوكرانية ما يشبه صب الزيت على النار بتأثير من العقوبات الاقتصادية وحرب الطاقة. اجتمع كلاهما على تحقيق الاضطراب في سلاسل التوريد، بحيث نتج عنها انتقالات في العملية الإنتاجية من «العولمة البعيدة إلي المرافئ القريبة أو ما سماه Nearshoring. النتيجة هي أن ما كان من أزمات في الطلب سوف يتحول إلى أزمات في العرض في ظل درجات أعلي من عدم اليقين.
التحول الثاني هي أن تقلبات «التضخم والانكماش» الماضية والمتوقعة، مع الاضطرابات التي تتبعها في إجراءات البنوك المركزية بين رفع أسعار الفائدة وانخفاضها، دفعت هيكليا اقتصاديات كبيرة في العالم – الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – إلى اتباع سياسات حمائية علي غير المتوقع من دول تتبني حرية التجارة. أضف إلي ذلك أن الحرب الأوكرانية قد شلت مجموعة الدول العشرين G-20 وهي المؤسسة الدولية المنوط بها مراعاة العولمة التجارية وتصحيح ما يعتريها من أزمات طارئة. الصين في المقابل أخذت اتجاها مركزيا يقوم على فك الارتباط مع الولايات المتحدة. التحول الثالث جاء أيضا من تأثير «الجائحة» مع «الحرب» وبينما أدت الأولي إلى بقاء الموظفين والعمال في بيوتهم، فإن الثانية خلقت قدرا هائلا من عدم الثقة في النظام الاقتصادي العالمي. وبينما كان هذا الانسحاب مؤديا إلى اختلالات في سوق العمل، فإن ما تبعه كان تأثيرات سلبية علي سلوكيات الشركات العالمية التي بات منهجها ليس قائما علي التجديد التكنولوجي وفتح الأسواق الجديدة، وإنما العمل علي البقاء داخل السوق. في مثل هذه الظروف لا يكون سهلا دفع الدماء إلى عروق العولمة وإعادة الاقتصاد العالمي إلي حيويته مرة أخري، ويكون ذلك وسط عالم أكثر ارتباطا ببعضه البعض، ولكن هذه المرة تكون النتائج في الاتجاه العكسي لما كانت عليه من قبل.
كل ما سبق تلخيص فيه الكثير من القصور الذي ترتبه مساحة هذا المقال، بالقدر الذي يرتبه أن كاتب المقال نفسه ليس اقتصاديا متخصصا يستطيع فك أسفار واحد من أهم الاقتصاديين في العالم. ولكن تخصص العلوم السياسية يقضي بأن صيحات التحذير عندما تطلق في أي ركن من أركان عالمنا لابد لها أن تجد صدي داخل مصر حتى ينكب عليها المتخصصون ويدرسون ما فيها ويستحق التحوط أو يتطلب شجاعة انتهاز الفرصة. ما يعقد أمرنا أننا في منتصف طريق رؤية يجري تطبيقها على الأرض المصرية دون تسويف أو تردد؛ ولكن ذلك هو ما جاء من د. محمد العريان ولا يمكن تجاهله أو غض البصر عنه. الحوار الاقتصادي الذي جري ربما سوف يظل حوارا مستمرا.