بقلم - مصطفى الفقي
ما أكثر ما شهد التاريخ الإنسانى من جرائم مروعة تجسدت جميعها تحت عنوان إبادة الجنس البشرى ونحن نسمع عن بعضها فى مناطق العالم المختلفة ولكن أكثرها تأثيرًا هى تلك المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط.
ولابد أن أعترف هنا أن التاريخ البشرى حافل بمبالغات معروفة وإخراج درامى لا ننكر وجوده، ومع ذلك تبقى هناك أحداث كبرى تترك بصماتها على التاريخ الإنسانى ولا شك أن منطقة الشرق الأوسط حافلة بنماذج تاريخية للقهر والطغيان بفعل القوى الأجنبية والضغوط الخارجية والاحتلال الذى جثم على صدر المنطقة لعدة قرون، ونتذكر الآن بعض النماذج والأمثلة لأنواع الإرهاب المستتر مهما كانت مصادره ونتذكر ما جرى للجميع بغض النظر عن أعراقهم وأفكارهم ودياناتهم ولا ننكر ما جرى لغيرنا ولكننا نتذكر أيضًا لقوميات وديانات أخرى, فالمنطقة العربية تتجاور مع قوميات غيرها وتمتزج بسواها بروابط عميقة تجعلنا جميعًا شركاء فى الحاضر والمستقبل. ونتذكر الآن أنه عندما أطلت الحرب العالمية الثانية وتعقبت
النازية العنصرية اليهود فيما يعرف بـ(الهولوكوست) ويقع كثير من المناصرين للقضية الفلسطينية فى خطأ إنكار وجوده وتلك سقطة لا مبرر لها فنحن نعترف بأن ذلك قد حدث وأن أفران الغاز النازية قد حصدت أرواح أعداد من يهود أوروبا، خصوصًا الألمان حيث كان أدولف هتلر مقتنعًا بأن اليهود هم سبب هزيمة بلاده فى الحرب العالمية الأولى، ولكن اعتراضنا يأتى من رفضنا أن يكون البديل للجريمة النازية ضد اليهود هو جريمة صهيونية أخرى ضد أرض فلسطين فى ظل سياسة عنصرية توسعية عدوانية تعيد منطق الهولوكوست الذى جرى ضدها وتحيله إلى سياسة ممنهجة ضد الشعب الفلسطينى على مدى ثلاثة أرباع قرن.
مضت فيها دماء وأشلاء وقتل الأبرياء تنفيسًا عن جريمة جرت ضدهم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وكان يمكن أن تتحول هذه الطاقة الناجمة عن جرائم النازية إلى طاقة إنسانية عكسية تدعو دولة إسرائيل إلى تجنب جرائمها الوحشية حتى لا يتجرع السم بشر يدافعون عن أرضهم ووطنهم بل كان يجب أن يؤدى ذلك إلى تعاطف إنسانى مع الحقوق الفلسطينية والسعى الحثيث نحو العيش المشترك فى ظل روح التسامح وأجواء السلم والتوقف عن تكرار الجرائم ضد الإنسانية، ولقد عرفت البشرية أنماطًا من حروب الإبادة ونحن نتذكر فى هذه المنطقة من العالم مذابح دير ياسين وبحر البقر وصبرا وشاتيلا وغيرها من عشرات الجرائم المروعة التى ارتكبتها إسرائيل بدمٍ بارد وجعلتها دائمًا نمطًا متكررًا فى تعاملها مع العرب وخصوصًا الشعب الفلسطينى، ثم نأتى للحرب الأخيرة على غزة والتى فاقت فيها عدوانية إسرائيل كل الحدود وأصبحت نموذجًا رهيبًا لجريمة الإبادة الجماعية والتهجير القسرى وقتل أكبر عدد من الأطفال فى تاريخ الصراع الدامى حول القضية الفلسطينية.
إننى أكتب هذه السطور حول الجرائم البشعة التى اقترفتها الدولة العبرية منذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ حتى ظهر رئيس وزرائها فى صورة الجلاد المتعطش إلى الدماء وحوله جوقة من رموز اليمين الإسرائيلى المتطرف ليزينوا له فعلته ويمضوا معه على طريق لن يصل فى النهاية إلا إلى حائط مسدود قد يكتب نهاية الحلم الصهيونى برمته، وإذا كانت بعض الدول قد آثرت الاعتذار عن جرائمها ومحاولة التكفير عن خطاياها انطلاقًا من نظرية التطهر البشرى والتكفير الإنسانى عن الخطايا، خصوصًا وأن سفك الدماء هو قمة الجرائم الموجهة ضد البشرية عبر تاريخها الطويل، إلا أننا نظن أن دولة مثل إسرائيل قد تنكرت دائمًا للشرعية الدولية واستخفت بأحكام القضاء الدولى لن تفيق ذات يوم لتقول إننى أجرمت فى حق غيرى من أصحاب الأرض وشعوب المنطقة، ولكن ذلك بالطبع غريب على الأسلوب الإسرائيلى فى التعامل مع الغير منذ عقود طويلة .
إننى أسجل هنا وقد أصابنا جميعًا اكتئاب حاد من مناظر الأشلاء والدماء والأطفال اليتامى والأمهات الثكالى والدموع الحزينة فى عيون الأطفال الذين ترسخت فى ذاكرتهم صور الجرائم وعمليات الترحيل الحزين والخروج البائس من بيوتهم المهدمة وأرضهم المحتلة ليدفعوا ثمن البغى والعدوان والظلم والطغيان، وهنا نتساءل هل يمكن النسيان!؟ وهل نستطيع ذات يوم الغفران؟!