بقلم - عماد الدين أديب
إذا خُيّر دونالد ترامب -عند الخيار- بين حليفه العربى، وحليفه التركى، فمن سيختار؟سؤال مشروع، وضرورى، وإلزامى يتعين طرحه الآن ونحن نقوم بتقدير كلى للمواقف، والمنطقة كلها على أعتاب صراعات فى سوريا والعراق وليبيا، وهى صراعات يلعب أردوغان الدور التصعيدى فيها.هنا أيضاً لا بد من التجرؤ والتساؤل الصريح: هل ما يقوم به أردوغان هو «فعل فردى» خاص بمصالحه وسياساته، أم أنه عمل ينسجم مع المصالح الأمريكية غير المعلن عنها؟حينما يسأل أى مسئول عربى زميله المسئول الأمريكى حول طبيعة علاقة أردوغان بترامب، ويستغرب عن هذا «الصمت الأمريكى» عن كل مغامرات تركيا العسكرية فى المنطقة، تأتى إجابة هى أقرب للحجة الواهية الساذجة التى تقول: «الرئيس ترامب مشغول تماماً بمعركة الرئاسة الآن، وكل جهوده مخصّصة للانتخابات وملف الكورونا، وهو لا يحتاج إلى أى متاعب كبرى تشتت جهوده الحالية».وحينما يعود المسئول العربى ويسأل: وهل سيتركون أردوغان يعبث بالمنطقة كما هو الآن؟يأتى الرد: «بعد فوز ترامب سوف يتبدّل الحال تجاه أردوغان».وحينما يسأل المسئول العربى: «وماذا لو فاز بايدن، وخسر ترامب»؟يرد المسئول الأمريكى: «لو فاز بايدن فإن الديمقراطيين سوف يتوجونه خليفة عليكم!».وعلاقة أردوغان مع الديمقراطيين قديمة، وقوية أكثر مما يتصور البعض.ولأن أردوغان يؤمن، وبشدة، بالمأثورات التركية القديمة، فهو يؤمن بمثل تركى قديم يقول: «الحذاء الجيد هو الذى يأخذك بعيداً حينما تريد»، لذلك فالرجل على استعداد لأن ينتعل أى سياسة تحقق له ما يريد بصرف النظر عن ماهيتها أو أخلاقياتها أو شرعيتها فى الداخل أو الخارج.مع صعود الدورين السعودى والإماراتى فى المنطقة، وظهور الأدوار الفاعلة لكل من الشيخ محمد بن زايد، والأمير محمد بن سلمان، وقيام ثورة 30 يونيو فى مصر، استشعر أردوغان أنه رغم مركزية وأهمية الدور التركى الذى لا بديل له، إلا أنه أدرك أيضاً أن واشنطن سوف تجد لها أكثر من حليف معتدل فى المنطقة.مقابل هذا الشعور عرض أردوغان خدماته بلا تحفّظ على إدارة باراك أوباما، وأصبح يقدم نفسه فى دوائرها الداخلية على أنه «المستشار الأكبر، والحليف المضمون، والقوة الأعظم فى الشرق الأوسط».مقابل ذلك حصلت تركيا على استثمارات أمريكية تساوى 20 مليار دولار من إجمالى 50 مليار دولار من جميع دول العالم.وكانت تركيا هى أول دولة فى الشرق الأوسط يزورها أوباما بعد توليه الرئاسة.ووصفت الإدارة الأمريكية العلاقة التركية - الأمريكية بأنها «العلاقة النموذجية بين بلدين»، وهو وصف لم يصدر لأى علاقة مع أى دولة، بما فيها إسرائيل.وتحتل تركيا المرتبة رقم 32 كشريك تجارى للولايات المتحدة، ووفّرت هذه العلاقة قرابة 80 ألف وظيفة.وللعب دور أكثر فاعلية، أقامت تركيا رأس حربة قوياً داخل واشنطن مكوناً من مؤسسة التراث التركية، مؤسسة سيتا، ومركز دانيت الأمريكى للتأثير المباشر داخل المؤسسات الأمريكية.عندما فوجئ الجميع بفوز ترامب على منافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون، تحرك أردوغان «بسرعة وكفاءة» فى تجنيد كل أدواته وعلاقاته مع قيادات الحزب الجمهورى، ومع إعادة تفعيل علاقاته الشخصية مع عائلة ترامب.وقد لا يعرف الكثيرون عن طبيعة علاقة آل أردوغان مع آل ترامب.تعود علاقة أسرة ترامب مع شبكة المصالح التركية مع تدشين شركة ترامب لبرج عقارى كبير اسمه «ترامب تاور» فى مدينة إسطنبول عام 2012، أكرر عام 2012.وحضر هذا التدشين كل من ترامب وصهره جاريد كوشنر، والابنة إيفانكا، وحضر أيضاً شريك آل ترامب المحلى فى تمويل البرج، وهو رجل الأعمال محمد على بالشين، وهو مقرب من أردوغان، والذى شغل منصب رئيس مجلس العلاقات التركية - الأمريكية.وكتبت الابنة «إيفانكا» تغريدة على موقعها الرسمى عقب افتتاح البرج تشكر فيها السيد رجب طيب أردوغان لحضوره الافتتاح!ووصف ترامب، فى تصريح علنى، محمد على بالشين بأنه صديق عظيم له ولابنته إيفانكا.كان ترامب، يدرك أهمية تركيا تحت قيادة أردوغان كقوة اقتصادية صاعدة، وكان معجباً «بقوته وصلابته وعناده الشخصى والسياسى».وكتب جون بولتون فى مذكراته: «أن ترامب لديه حالات إعجاب خاصة بالشخصيات الاستبدادية، مثل الرئيس بوتين، والرئيس ينج، وأردوغان».لعبت أنقرة لعبة رهانات مزدوجة على الحزبين الجمهورى والديمقراطى فى آن واحد.ففى الوقت الذى راهنت فيه علناً وقامت بدعم المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون، دفعت برجل أعمال تركى قريب للغاية من رجب طيب أردوغان اسمه «أكين الب تاكين» يرأس مجلس الأعمال التركى - الأمريكى، وله خطوط اتصال قوية مع القوى الفاعلة فى مراكز صناعة القرار الأمريكى بفتح قناة خاصة مع حملة ترامب.وجاء فى كتاب جون بولتون المستشار السابق لشئون الأمن القومى لترامب أن رجل الأعمال «تاكين» قام بدفع مبلغ 500 ألف دولار لشركة مايكل فلين أحد أكبر مستشارى حملة ترامب فى يوم الانتخابات ذاته، بمثابة «رشوة مستترة».وبعد الانقلاب الفاشل عام 2016، حدث تنسيق حديدى بين جهات الأمن التركية العليا ونظيرتها القطرية، وبناءً عليه تم توحيد الجهود والتحركات وعمليات التمويل لشركات التسويق السياسى، و«اللوبيات»، ومراكز الأبحاث فى واشنطن، مما أعطى للنفوذ التركى زخماً أكبر ومصادر تمويل ضخمة.لكن هل يمكن القول إن علاقة ترامب بأردوغان هى علاقة «منزوعة التوتر خالية من المتاعب»، الإجابة «لا» بالتأكيد.شخصيتا ترامب، وأردوغان يصعب السيطرة عليهما، لا يمكن توقع ردود فعلهما بسبب التركيبة الشخصية العصبية لكل منهما.لذلك اصطدما 3 مرات: فى مسألة القس الأمريكى برجستون المعتقل فى تركيا بتهمة التجسّس، وفى ملف شراء تركيا لصواريخ «إس 400» الروسية، بدلاً من نظام باتريوت الأمريكى، وبسبب إعطاء الإدارة الأمريكية حق الإقامة لـ«فتح الله جولن» العدو الأكبر لأردوغان فى ولاية بنسلفانيا الأمريكية.طريقة الرئيس التركى فى التعامل مع هذه الملفات هى خلق أزمة ومحاولة الابتزاز للمقايضة عليها، مثال: رفض تركيا استخدام إنجرليك أو شراء نظام دفاعى روسى، أو اعتقال قس أمريكى يتبعه 62 مليون أمريكى هم أحد أهم حلفاء ترامب.بالمقابل، يلعب ترامب، الخارج عن السيطرة، المنفلت عصبياً، بنفس ورقة الابتزاز والضغط الأقصى على خصومه.ورغم ذلك فكلاهما يدرك «مركزية وأولوية العلاقة الاستراتيجية بينهما».العلاقة بين واشنطن وأنقرة قديمة قبل 15 رئيساً أمريكياً، حيث إنها تبدأ بقوة فى عهد الرئيس ترومان.وتدرك الولايات المتحدة أن تركيا بحكم الجغرافيا والمصالح والتاريخ مضطرة للتقارب مع روسيا من دون تحالف معها، وبحكم الدور والارتباط وحلف الناتو، هى قريبة للولايات المتحدة دون القطيعة معها.تدرك أنقرة وواشنطن أنهما مهما تقاربتا أو تخاصمتا، فإن كل طرف منهما فى احتياج استراتيجى للآخر.ومن ثوابت هذه العلاقة، هو قاعدة إنجرليك وموقع تركيا المطل على البحر الأسود المتحكم فى مضيقى البوسفور والدردنيل الاستراتيجيين.تدرك مراكز صناعة القرار الأمريكى أنه لا بد من التفرقة بين الدور التركى الاستراتيجى الثابت فى السياسة الأمريكية، وتقلبات لاعب «شرس يتجاوز حدود اللعبة» مثل أردوغان، لذلك يحدث فى العلاقة شد وجذب، لكنها علاقة لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها.يدرك الرئيس الأمريكى أن أردوغان يستغل انشغاله فى معركة الرئاسة لخلق تغييرات كبرى فى موازين القوة فى المنطقة.وما يحاوله ترامب الآن هو تأجيل أى ضغط أو صدام مع تركيا وأردوغان، لأنه يعيش تحت شعار: «لا شىء يعلو فوق المعركة الرئاسية التى بدأ يستشعر القلق من وضعه الحالى فيها».يمكن القول إن ترامب الآن «يغض البصر» إلى حد إعطاء الضوء الأخضر للدور التركى فى كردستان، وإدلب، وغرب ليبيا.أقصى طموح ترامب الآن هو ثبات خطوط القتال فى هذه الجهات لما بعد الانتخابات الرئاسية.فى الوقت ذاته، يدرك «أردوغان»، أنه إذا لم يخلق خطوطاً عسكرية جديدة بالقوة المسلحة من الآن وحتى انتخاب الرئيس، سوف تصبح حركته مقيدة برئيس قوى.أفضل الحلول من منظور أردوغان، هو فوز بايدن بالرئاسة. لماذا؟حينما يفوز بايدن تصبح علاقة الإدارة الديمقراطية مع (السعودية - مصر - الإمارات)، تحت ضغط كبير بسبب طبيعة علاقاتهم الجيدة مع ترامب.حينما يفوز بايدن يدخل المحور التركى - القطرى الداعم للحزب الديمقراطى مرحلة الصعود وأمل واشنطن فى البيت الأبيض والكونجرس.حينما يفوز بايدن يستطيع أردوغان إصلاح وترميم علاقات أنقرة المشروخة مع البنتاجون والسى أى إيه، والخارجية.هذا كله يضع ترامب أمام خيار «صعوبة الخيار»!احترف ترامب لعبة اللعب على الجميع بالجميع!أزمة ترامب أن لديه تصدّعاً فى معسكر الحلفاء، عليه فى لحظة الصدام الكبرى أن يفاضل بينهما، عليه أن يختار بين مصر والسعودية والإمارات والأردن، وبين قطر وتركيا!وحينما يفوز بايدن يعود أردوغان فى تسويق مشروعه ومشروع قطر القديم، الذى تم تسويقه لإدارة «أوباما» بإعطاء تنظيم جماعة الإخوان المسلمين الامتياز الحصرى لإدارة شئون المنطقة برعاية تركية وتمويل قطرى.كل ذلك يدركه ترامب، وهو يتعامل مع تحركات أردوغان فى المنطقة.