بقلم - عماد الدين أديب
توقع هنرى كيسنجر أن تقود إيران حرباً عالمية ثالثة فى الشرق الأوسط تنتهى إلى قيام إسرائيل باحتلال نصف المنطقة لتحقيق أمنها والوقوف أمام «مشروعات إيران» بها.قال ذلك د.كيسنجر فى مطلع هذا العام فى مقابلة مع موقع «ديلى سكايب»، قبيل آثار أزمة الكورونا على إيران، وقبيل الضربات والتفجيرات «مجهولة الهوية» لأهداف استراتيجية داخل إيران، وقبيل اندلاع مظاهرات جديدة وقبيل الضربة الأمريكية الكبرى باغتيال القائد «سليمانى» بعملية نوعية.هذا زمن تلقى إيران للضربات، واختبار للقدرة على «التحمل الموجع» لسياسات الضغوط القصوى التى تمارسها إدارة دونالد ترامب.إيران الشهيرة بسياسة الصبر الاستراتيجى، تعيش الآن مرحلة الألم الاستراتيجى، وكأنها تستعذب العقوبات، والضغوطات، والحصار والمقاطعة، والضربات فى سوريا، والضربات داخل إيران.إيران الآن تعانى إلى حد أصبح التحمل فيه مستحيلاً لدى الناس التى تنتفض متظاهرة من طهران إلى أصفهان إلى خورستان.للأمانة فى العرض، علينا أن نوضح ماذا تقول طهران عما يحدث الآن، وكيف تدافع عن سياساتها، وكيف ترى العقوبات المفروضة عليها أمريكياً؟قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية تعقيباً على تصريحات «بومبيو» الخاصة «بفعالية استمرار سياسة العقوبات القصوى»: «إن المسئولين الأمريكيين لن يحققوا أى نتيجة بهذه الأساليب»، واتهم عباس موسوى، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بومبيو بأنه جاء من منظمة جهنمية ومخادعة تمارس التعذيب والجهل والعدوان».فى ذات الوقت، أسس «بومبيو» هجومه على السياسة الإيرانية «أن هذا نظام لم يحترم شعبه منذ 40 عاماً، وأنه يجب تغيير حكم المرشد الأعلى وعصابته»، على حد وصف بومبيو.مؤشرات الاقتصاد الإيرانى تفصح عن آثار العقوبات شديدة القسوة التى تتعرض لها البلاد:1- أصبح نصف الشعب الإيرانى تحت خط الفقر.يحدث هذا لدولة تعتبر من كبار مصدرى النفط فى العالم، وصاحبة المركز الثانى فى احتياطيات الغاز فى العالم.2 - أكد مركز أبحاث تابع للبرلمان الإيرانى ارتفاع تكاليف الحياة على الأسرة التى كانت تحتاج منذ عامين إلى مبلغ 25 مليون ريال لمواجهة تكاليف الحياة فأصبح 45 مليون ريال للأسرة ذاتها المكونة من 4 أفراد.3 - الهبوط التاريخى للعملة الوطنية بشكل مخيف مقابل الدولار الأمريكى.وسجل الدولار الواحد فى الأسبوع الماضى 255 ألف ريال، وهو أضعف رقم وصلت إليه العملة الوطنية.لم يعد سهلاً أن يبعث المرشد الأعلى للثورة الإيرانية من موازنته الخاصة التحويلات النقدية السخية للحلفاء فى اليمن ولبنان وسوريا وغزة والعراق.الأصل فى طهران مأزوم، وكذلك الفروع التابعة فى صنعاء وبغداد ودمشق وغزة وبيروت.هنا يأتى السؤال: إلى أين ستؤدى سياسة واشنطن فى الضغط الأقصى والعقوبات المشددة التى يقودها مايك بومبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة؟فى علم الاحتمالات، أمامنا ما يمكن أن تسفر عنه الضغوط الأمريكية القاسية واللانهائية على النحو التالى:1 - الاحتمال الأفضل أمريكياً، وهو احتمال «التسليم والانصياع»، وهو احتمال يقوم على فرضية قيام النظام الإيرانى بالتسليم الكامل للشروط الأمريكية على طريقة إمبراطور اليابان عقب ضرب القاذفات الأمريكية مدينتى هيروشيما وناجازاكى بالقنابل الذرية.وصعوبة تحقق هذا الاحتمال هى أن إيران ليست اليابان، والمرشد الأعلى ليس الإمبراطور وثقافة الشيعة السياسية تختلف تماماً.2 - الاحتمال الواقعى، وهو ما تراهن عليه فرنسا وألمانيا الآن، هو وصول الأطراف إلى رغبة مشتركة فى التوصل إلى حل وسط يتم فيه إعادة مناقشة الاتفاق النووى مع ملاحق جديدة فيها تعهدات باحترام إيران بعدم التدخل الإقليمى فى المنطقة، مقابل رفع العقوبات والإفراج عن جزء من الأرصدة المجمدة وتقديم مساعدات إنسانية عاجلة بالذات فى مجال الرعاية الصحية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا.ويُذكر أن الرئيس حسن روحانى فاجأ الجميع بإعلانه أمس الأول فى خطاب جماهيرى أن عدد المصابين بفيروس كورونا فى إيران بلغ 25 مليون حالة!3 - الاحتمال الثالث وهو السيناريو الكابوس، الذى يعتبر الأسوأ للتحقق بالنسبة للأمن والسلم والاستقرار فى المنطقة، هو وصول الحرس الثورى الإيرانى إلى مرحلة فقدان الصبر الاستراتيجى، والتحول إلى مرحلة يائسة سياسياً، متفجرة أمنياً، انتحارية نفسياً من منطلق: «إذا كنت أنا الغريق، فما خوفى من البلل» لذلك تتبع طهران سياسة «شمشون» وهى: «هدم المعبد علىًّ وعلى أعدائى وليكن ما يكون».هذا السيناريو الكابوس، يكون مركزه طهران وفروعه تعتمد على تفجير المنطقة من قبل الحوثى فى اليمن، وحزب الله فى لبنان، وحماس فى غزة والحشد الشعبى فى العراق وسوريا.مخاطر هذا السيناريو الأخير أنه احتمال انتحارى يائس يصل بطهران إلى نقطة اللاعودة واللامستقبل فى أى عملية تفاوضية تؤدى إلى تسوية.العقلاء فى متابعة الملف الإيرانى الأمريكى، يرون أن كل ما نراه الآن يعتمد على الإجابة عن 3 أسئلة:1 - مَن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المقبل؟2 - هل تنتظر «الحالة الإيرانية» الشهور القليلة المقبلة لحسم الرئاسة وحسم شكل التحرك الأمريكى المقبل، أم «تنكسر» -حتى الآن- وتسعى إلى الرضوخ لشروط التفاوض المبكر، وإعطاء دفعة انتخابية للرئيس «ترامب».المنطق يقول إن طهران سوف تتحمل بأى ثمن الضغوط، ولن تفاوض إدارة الآن هى لا تعرف مَن هو رئيسها المقبل.والمنطق يقول إن طهران لديها تجربة تفاهم وتعاون مع الديمقراطيين، على عكس علاقتها المؤلمة مع الجمهوريين من «ريجان» إلى بوش الأب إلى بوش الابن وصولاً لترامب.3 - السؤال الثالث: قدرة النظام فى إيران على السيطرة على ردود الفعل الشعبية لحركات الاحتجاج المكتومة فى الداخل الإيرانى، يحدث ذلك فى وسط أصبحت فيه تكاليف الحياة مستحيلة، والبطالة مخيفة، وسلطة القمع والعنف لدى السلطات لا تطاق.انفجار الوضع فى إيران سوف تتساقط شظاياه على كل الإقليم، من اليمن إلى لبنان، ومن تركيا إلى الدوحة!إيران ليست قطعة أرض تبلغ مساحتها مليوناً و648 ألف كم فى موقع نادر وتعدادها 81 مليون نسمة وتعيش وحدها فى فراغ، بل هى دولة ذات موقع استراتيجى مؤثر على جيرانها وحاكم استراتيجى فى حركة التجارة البحرية ومنافذ البترول وأمن الخليج العربى.انفجار إيران، أو فقدان صانع القرار فيها لصوابه السياسى، ستكون له تداعياته على مستوى خارطة المنطقة كلها، ما ينذر فعلاً -كما قال كيسنجر- بحرب عالمية ثالثة لدولة تقع فى 3 نطاقات جيواستراتيجية.هذا الجنون الإيرانى يصبح مخيفاً إذا تعامل مع الحماقات العسكرية للعثمانى التوسعى «أردوغان» والاستيطانى المخادع بنيامين نتنياهو فى ظل عالم مرتبك، مضطرب، فى حالة سيولة مخيفة يديره تاجران هما «بوتين» و«ترامب» يطرحان كل شىء للبيع والشراء مقابل الثمن المناسب!ذلك كله يضع طهران أمام «خيار تفاوض مُذل» أو خيار «ارتداء حزام ناسف ذرى!».كل ذلك يحدث فى زمن وباء الكورونا، الذى كشف فشل الإدارة الحكومية الحالية بشكل عام، وسقوط النظام الصحى بشكل خاص.خياران أمام صانع القرار الإيرانى أحلاهما مر، إما أن يعلن وفاة سياسة الثورة من طهران إلى عواصم المنطقة لإعداد البلاد والعباد لحكم الولى الفقيه، أو الإصرار على استمراره وانتظار الموت البطىء جوعاً وفقراً ومرضاً وحصاراً.فى الحالتين، أشفق بشدة على الشعب الإيرانى الصبور، الذى تحمل ما لا يطيق بشر منذ عام 1979.