فرض قواعد اللعبة بالقوة هو القاعدة الأولى المتبعة الآن فى الشرق الأوسط!
فى 24 ساعة شاهدنا تطبيقين عمليين لهذه القاعدة:
1- فى «أنقرة» أقر البرلمان التركى، بأغلبية 325 صوتاً مقابل 184 صوتاً معارضاً، الموافقة على مذكرة الرئيس أردوغان بإرسال قوات وأسلحة تركية إلى «طرابلس».
2- قيام طائرة أمريكية مسيّرة من استخبارات الجيش الأمريكى بعملية نوعية أدت إلى قتل 8 أشخاص قرب مطار بغداد، بينهم اللواء قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثورى الإيرانى، وأبومهدى المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبى العراقى.
فرض الأمر بالقوة، بصرف النظر عن الشرعية أو المشروعية فى القرار، هو سمة هذه المرحلة التى تعيشها المنطقة.
قبل ذلك قامت إسرائيل بعمليات نوعية ضد أهداف محددة فى العراق وسوريا وبعدها قامت صواريخ وطائرات أمريكية بقصف أهداف مختارة تابعة لإيران فى سوريا والعراق.
قبل ذلك قام الحشد الشعبى العراقى بحصار السفارة الأمريكية فى «بغداد».
وقبل ذلك قامت طائرات مدنية مستأجرة من قبَل الجيش التركى بنقل ثلاثمائة مقاتل إرهابى من سوريا إلى معسكرات على مشارف «طرابلس»، وبالتوازى تم نقل ألف وستمائة سورى يتبعون «داعش» و«النصرة» والجيش السورى الحر للتدريب فى معسكرات تركية تمهيداً لنقلهم إلى «طرابلس».
التفسير الأمريكى لما يحدث أنه لا يمكن أن تقبل «واشنطن» سقوط 30 صاروخاً على قاعدة أمريكية فى العراق، وسقوط ضحايا أمريكيين، ومقتل مدنى أمريكى، لذلك كان لا بد من رد فعل.
التفسير التركى أن مصالحهم مع حليفهم «السراج» أصبحت فى خطر شديد بعد وصول قوات جيش المشير خليفة حفتر إلى مفاصل استراتيجية فى مدينة طرابلس.
كل طرف «الإيرانى والأمريكى والتركى وقوات حفتر» لديه -من وجهة نظره- السياق الذى يفترض أنه قانونى وموضوعى يبرر قيامه بأعمال قائمة على العنف والقوة فى تغيير قوام الصراع.
فى مثل هذه التشابكات والسياسات لا مجال -الآن- للعمل الدبلوماسى، ولا للحوار العلنى أو عبر قنوات خلفية.
باختصار نحن فى منطقة وزمن وقواعد لعبة تقول: كل من يستطيع فرض أى أمر بالقوة المسلحة فليتفضل، لأن هذه هى الوسيلة الوحيدة الممكنة لرسم صورة المنطقة.
ما يحدث هو تفجير مخيف ومجنون وأحمق على جانبى الخليج العربى وشرق البحر المتوسط.
اغتيال الجنرال سليمانى يعنى توجيه ضربة فى الصميم للمهندس الرئيسى لامتداد مشروع ولاية الفقيه فى «طهران» إلى المنطقة.
الجنرال سليمانى هو مهندس تدعيم وبناء حزب الله فى لبنان، والحشد الشعبى فى العراق، ونقل القوى العسكرية الشيعية المقاتلة المتصدية لـ«داعش» والمعارضة فى سوريا، وهو من بنى جهاز أمن وقوى القتال للتيار الحوثى فى اليمن، وهو باختصار «صيد ثمين» وجائزة كبرى للاستخبارات الأمريكية!
الجنرال سليمانى، من وجهة نظر المرشد الأعلى الإيرانى وأنصاره، بطل قومى ورمز بطولى للقيادة الثورية، أما من وجهة نظر خصومه فهو رجل قتل المتظاهرين من أبناء شعبه عدة مرات، وعلى يديه سالت دماء كثيرة فى المنطقة، ومن القوات الأمريكية. «أردوغان» يريد فرض معادلة مزورة مجنونة لتغيير التاريخ والجغرافيا بسياسة البوارج الحربية.
«ترامب» أيضاً بعث برسالة واضحة لـ«طهران» أن ضرب ناقلات النفط، وإسقاط الطائرة المسيّرة الأمريكية سابقاً، وقصف «أرامكو»، وقصف القاعدة الأمريكية فى العراق، وحصار السفارة الأمريكية فى «بغداد» هو أمر يتعدى الخطوط الحمراء عند «واشنطن»، وأنها لن تقبل بعد الآن هذا الجنون والتصعيد والاستفزاز الإيرانى.
نحن الآن فى لعبة الفعل ورد الفعل فى الخليج وشرق المتوسط.
فى الخليج علينا أن نتوقع عمليات انتقامية إيرانية ضد أهداف أمريكية مباشرة أو مصالح أو حلفاء فى المنطقة لـ«واشنطن» من الخليج إلى إسرائيل.
فى شرق المتوسط، لن تقف ساكنة كل من اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل التى اعتدى على مصالحها وثرواتها وأمنها البحرى بالاتفاق المزور بين «أنقرة» و«طرابلس».
هذا ليس زمن لغة الحوار أو العقل أو الحكمة، هذا زمن فرض قواعد اللعبة على ساحات القتال فى البر والبحر والجو.
الجميع فى إيران وتركيا تجاوز كل الخطوط الحمراء، وردود الفعل ربما ستكون محتدمة إلى آخر مدى.
هذا ليس زمن التراجع أو المرونة.. لكنه للأسف الشديد هو زمن التصعيد على التصعيد، ورد الفعل على رد الفعل، ورفع مستوى التحدى فوق كل التحديات.
لاحظ أن هذه الأعمال التصعيدية التى تأتى من «أنقرة» و«طهران» تتم فى زمن تعانى فيه كل من تركيا وإيران من:
1- عقوبات دولية على البلدين لأسباب مختلفة.
2- أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى فقدان التومان، «العملة الإيرانية»، والليرة، «العملة التركية»، لأكثر من نصف قيمتهما فى عام واحد.
3- فقدان الحرس الثورى الإيرانى من ناحية وحزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا من ناحية أخرى لشعبيتهما التقليدية.
لاحظ التظاهرات الاجتماعية التى اجتاحت إيران فى أكتوبر الماضى، ولاحظ هزائم حزب أردوغان فى انتخابات المحليات فى أهم 3 مدن: إسطنبول وأنقرة وأزمير.
ذلك كله يجعل صانع القرار المأزوم بشدة فى الداخل يهرب إلى البحث عن مغامرات فى الخارج!
ذلك كله يضع المشروعين: العثمانى التركى والإيرانى الفارسى، فى تحدٍ كبير وخطر شديد.
الساعات المقبلة أو الأيام التالية على أقصى حد ستؤكد لنا الآتى:
«أن عالم ما بعد إرسال تركيا قواتها إلى ليبيا لن يبقى كما هو، بل -بالفعل- تغير».
«أن عالم ما بعد اغتيال قاسم سليمانى ورفاقه لن يبقى كما هو، بل -بالفعل- تغير».
إنه الانفجار الانشطارى، الذى سيشهد الكثير من الدماء التى تسبب فيها جنون «أنقرة» و«طهران».
والأيام حبلى بميلاد منطقة جديدة بقواعد جديدة.