بقلم - عريب الرنتاوي
تستثير "المشتركات" بين المشهدين اللبناني والعراقي الرغبة لدى الباحث والمراقب، لعقد المقارنات بين السياقين والتجربتين، لرصد ما تشابه بينهما وما اختلف، سيما بعد أن دخل العراق منذ العام 2003 مرحلة "اللبننة"، ومن أوسع بواباتها وأكثرها تعقيداً.
في العراق، وفي الأول من أكتوبر 2019، اندلعت واحدة من أهم انتفاضاته الشعبية غير المسبوقة، تركزت فعالياتها في بغداد ومدن الجنوب وبلداته، حيث الغالبية الشيعية من سكان البلاد، وحيث "الحاضنة الشعبية" لأحزاب وميليشيات، جُلّها محسوب على إيران...في لبنان، وبعد أسبوعين أو أزيد قليلاً من ذلك التاريخ (17 أكتوبر)، اندلعت واحدة من أهم وأكبر انتفاضاته الشعبية، شملت مختلف المناطق اللبنانية، بما فيها تلك التي طالما عُدّت "حواضن" شعبية لـ"الثنائي الشيعي"، وتحديداً حزب الله.
الانتفاضتان في العراق ولبنان، حملتا في تزامن لافت، ومن دون تنسيق مسبق، الشعارات والمطالب ذاتها: إسقاط نظام المحاصصة الطائفية، إعادة الاعتبار للدولة المدنية والهوية الوطنية على حساب "الدويلات المليشياوية، وفي مواجهة "الهويات الثانوية القاتلة"، محاربة حزب الفساد الضاربة جذوره عميقاً في الطبقة السياسية وعائلات الإقطاع السياسي وزعماء الطوائف وأمراء الحروب فضلاً عن فئة واسعة من رجال الأعمال الفاسدين، استرداد وحدة وسيادة الدولة في مواجهة التدخلات الخارجية، أياً كان مصدرها، ولأن لإيران نفوذ متميز في البلدين، فقد حظيت المطالبات برفع اليد الإيرانية عنهما، بمكانة متقدمة على رأس المطالب الجماهيرية والشعبية، مواجهة "الجائحة الاقتصادية" وما ترتب عليها من تردِ متراكم ومريع في الخدمات (لا ماء ولا كهرباء ولا بنى تحتية ولا نظام صحي فعّال في البلدين)، إلى غير ما هنالك من شعارات ومطالب تصدرت عناوين الحراك الشعبي/الشبابي في البلدين.
سيضطر رئيس الوزراء سعد الحريري لتقديم استقالة حكومته بعد أقل من أسبوعين من اندلاع الانتفاضة اللبنانية (29 أكتوبر)، وسيلتحق به رئيس الوزراء عادل عبد المهدي متأخراً عدة أسابيع (29 نوفمبر)، وسيدخل البلدان بعد ذلك، في مرحلة من "الفراغ"، لتتالى المحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة جديدة...في لبنان، سيخفق الوزير محمد الصفدي ورجل الأعمال سمير الخطيب في تشكيل حكومة جديدة، وستُحرق أسماء لمرشحين للمهمة قبل أن تسمى رسمياً للتكليف...وفي العراق، سيخفق كل من محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي في تذليل العقبات واجتياز "الفيتوات" المتبادلة من الأطراف المحلية والخارجية في تشكيل الحكومة.
في كلا البلدين، سيثبت نظام المحاصصة الطائفية أنه عصي على الاقتلاع، وإذا كان الأمر مفهوماً في لبنان بالنظر لتجذر هذا النظام تاريخياً، فإن المثير للانتباه والغريب حقاً، أن نظام المحاصصة الطائفية، على حداثة عهده في العراق، قد أظهر صلابة وتماسكاً لافتين، لأسباب واعتبارات تتصل أساساً بصراع القوى الإقليمية والدولية في العراق وعليه، واعتماد اللاعبين الخارجيين على أدوات محلية، طائفية ومذهبية واثنية، مدججة بهوياتها وأسلحتها ومليشياتها، "القاتلة" كذلك.
ستصل الطبقة السياسية اللبنانية، جزء منها على الأقل، إلى تكليف حسان دياب (19 ديسمبر) بتشكيل الحكومة، وسيحتاج الرجل إلى ما يقرب من شهرين لإنجاز هذه المهمة، والحصول على ثقة مجلس النواب (وهذه بالمناسبة فترة قياسية، إذ احتاجت حكومات لبنانية سابقة لأكثر من تسعة أشهر للتأليف)...وفي العراق، ستنتهي التوافقات الخارجية (إيران والولايات المتحدة) والمحلية على تكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل حكومة جديدة (9 أبريل)، وسينجز مهمته "ناقصةً وزيرين للخارجية والنفط"، في أقل من شهر، وسيحظى بثقة البرلمان في السابع من مايو الجاري.
كلا الرجلين، جاءا من خارج "نادي الأحزاب والمليشيات والسلالات الحاكمة، وهما على اختلاف مرجعياتهما، (الكاظمي من الصحافة إلى المخابرات، فيما دياب يأتي من عالم الأعمال والتكنوقراط)، إلا أن المصادر العارفة بهما تؤكد انتمائهما لمدرسة "وطنية" في مواجهة المدارس الطائفية والمذهبية، وأنهما كليهما، متخففان من أعباء "الإيديولوجيا" وانحيازاتها، ويحتفظان بعلاقات "معقولة" مع أهم لاعبين خارجيين في بلديهما: طهران وواشنطن، الكاظمي على مسافة أقرب من واشنطن، ودياب على مسافة أقرب من حلفاء إيران.
حكومتا الرجلين، تتسمان بسمات "انتقالية"، جاءتا لوقف التدهور الاقتصادي والمالي (العراق لا أموال كافية لدفع الرواتب، ولبنان فقدت ليرته ما يقرب من ثلثي قيمتها في أقل من نصف عام)، واستئناف تقديم الخدمات وإن بحدها الأدنى، تخفيض فاتورة الفساد إن لم نقل محاربته، والأهم: التهيئة لانتخابات نيابية مبكرة، كانت مطلباً أساسياً للانتفاضتين، تُعيد "توزين" أحجام وأثقال القوى السياسية المتنافسة، وتختبر فرصة تمثيل الحراك الشعبي في برلماني البلدين، على أمل أن تكون محطة للتخلص من نظام المحاصصة الطائفية الفاسد.
كلتا الحكومتين تواجهان مهام صعبة للغاية، إن لم نقل مستحيلة: معالجة ملف "الجائحة الاقتصادية" التي تعتصر البلاد والعباد، في ظرف إقليمي ودولي غير مواتٍ أبداً، مع دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود غير مسبوقة منذ تسعين عاماً، انهيار أسعار النفط وانعكاساته على الدول المنتجة (العراق) والمتلقية (لبنان)، وجائحة كورونا وما أحدثته من هزّات اقتصادية واجتماعية، يصعب تقدير مدياتها وآثارها من الآن، وإن كانت مختلف المؤشرات تؤكد أنها ستكون مؤلمة للغاية (فقر، بطالة، انهيار السياحة، تراجع الناتج القومي، ارتفاع الديون، عجز الموازنة، تراجع التحويلات والاستثمارات الخارجية المباشرة، تراجع المساعدات والهبات الخارجية) إلى غير ما هنالك.
وسيتعين على حكومتي البلدين، مواجهة أكبر وأشرس أحزابهما: حزب الفساد، العابر للطوائف والمذاهب والأحزاب والمليشيات، الضاربة جذوره في عمق "البنية الفوقية" للنظام، وصولاً إلى "بناه التحتية" المشتملة على فئات وشرائح اجتماعية، تتغذى على نظام المحاصصة الفاسد، وتستمر باستمراره.
على أن التحدي الاقتصادي على جسامته، ليس التحدي الوحيد أو الأكثر تهديداً للحكومتين معاً...أحزاب الطوائف وميليشياتها ونظام المحاصصة وفساد الطبقة السياسية و"زواج المتعة" الذي يربطها بقطاع الأعمال، هي التحدي الأكبر الذي يهدد بتدمير فرص نجاح الحكومتين في أداء مهامهما، سيما وأن بعض أو كثير من هذه الأحزاب يحتفظ بميليشيات مسلحة، وارتباطات خارجية مع عواصم إقليمية ودولية متصارعة.
هنا أيضاً تطغى المشتركات على الاختلافات في التجربتين، الحشد الشعبي العراقي المدجج بالإيديولوجيا والسلاح، يقابله "الثنائي الشيعي" الذي يتفرد بالسلاح ويحمل الإيديولوجيا ذاتها أيضاً، وكلاهما يتبع إيران أو يحتفظ بعلاقات متطورة معها، وكلاهما أكثر قوة وتسليحاً وتدريباً من وحدات الجيش والأجهزة النظامية...وجود إيران على حدود طويلة مع العراق يجعل من الصعب على حكومة الكاظمي ضبط عمليات تسليح وتجهيز الفصائل الموالية لها...كما أن وجود حدود برية طويلة بين لبنان وسوريا، تجعل من معضلة ضبط الحدود، مهمة شبه مستحيلة أمام حكومة دياب.
التخلص من النفوذ الإيراني المهيمن في البلدين، لا يبدو مهمة يسيرة على حكومتيهما ورئيسيهما، إيران نجحت في العقدين الأخيرين في بناء العديد من "المنازل" لها في لبنان والعراق، وصراعها مع الولايات المتحدة وعواصم عربية أخرى، يتخذ من البلدين ساحات اشتباك له، والعقوبات الأمريكية على إيران، تطال بدرجات متفاوتة اقتصاد ومصارف البلدين، فيما سياسة "الأمن بالتراضي" المتبعة هنا وهناك، تبدو هشة أمام أي محاولة لاستحداث "اختراق" على طريق استعادة وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها.
وإن كنّا نولي اهتماماً لتحدي مواجهة النفوذ الإيراني في البلدين، فذلك لأن طهران باتت لاعباً رئيساً فيهما، بيد أن ذلك لا يعني انتفاء حاجة البلدين للتخفف من أعباء النفوذ الذي تحظى به أطراف إقليمية ودولية مؤثرة: الولايات المتحدة دولياً، وكل من تركيا والسعودية والإمارات إقليمياً...فجميع هذه الأطراف، تنخرط بنشاط في الصراعات المحلية وفي "حروب الوكالة" التي تندلع بين الحين والآخر.
بخلاف لبنان، يبدو تهديد الإرهاب الأصولي (السنّي) ضاغطاً على العراق، وأحياناً يرقى إلى مستوى التهديد الوجودي...لبنان تخلص من تهديد داعش والنصرة على حدوده، أما العراق فلا يزال تهديد داعش كامناً في أحشائه، برغم انتصاراته على التنظيم الأصولي: دولة وخلافة ومؤسسات، وبرغم نجاحه في تحرير الجغرافيا العراقية من رجسه...داعش يعاود بناء قدراته، وهو ينجح في شن حرب استنزاف متصاعدة، ضد الجيش والأجهزة الأمنية والحشد، وما لم تتجدد الحرب على الإرهاب وتتكثف فعالياتها، فإن خطر عودة داعش، سيصبح تهديداً ماثلاً.
لا أحد يعرف على وجه الدقة، متى ستنتهي "صلاحية" الحكومتين، وما إذا كانتا ستنجحان في إجراء انتخابات مبكرة أم لا، وإن جرت فوفقاً لأي قانون انتخابي، حتى لا تكون الانتخابات المقبلة، بمثابة تصويت بالثقة للطبقة السياسية المتهرئة ذاتها، ولكي تكون الانتخابات والبرلمان الذي سينبثق عنها، توطئة لإصلاح سياسي جذري، وخطوة على طريق الخلاص من قبضة نظام المحاصصة الفاسد والعاجز...تلكم أمنيات تنتمي لعلم الغيب، وليس مستبعداً أن تنتهي ولاية الرجلين وصلاحية الحكومتين الانتقاليتين، قبل أن تتحقق هذه المهمة المتعذرة، أو قُل، المستحيلة.