وفرت انتخابات 2020 الرئاسية الأميركية، فرصة غير مسبوقة، لشعوب منطقتنا العربية، للتعرف على النظام السياسي الانتخابي الأميركي، والذي ظلّ لكثيرين، بمثابة لغز يصعب تفكيك طلاسمه.
شعوب عربية عدة، تابعت الانتخابات الأمريكية، بشغف وفضول، افتقدته وهي تتابع مجريات انتخاباتها الخاصة، من برلمانية ومحلية. فرادة التجربة الانتخابية، شخصية ترامب، حالة الاستقطاب الحادة التي هيمنت على المجتمع الأميركية، الحديث عن انتقال غير سلس للسلطة، جميعها عناوين جذبت اهتمام المواطن العربي، المدفوع بالرغبة والفضول، لمعرفة كيف سينتهي هذا الفصل المشحون في تاريخ واحدة من أكبر وأقوى وأعرق الديمقراطيات في العالم.
لكن أحداث السادس من يناير الفائت، والتي أسمتها كثرة من الكتاب والمحللين في المنطقة بـ"غزوة الكابيتول" ستُضفي عنصر تشويق جديدا للمشهد الأميركي، وستضيف إلى أسباب "الفضول" عند المتابع العربي، سبباً إضافياً، سيما وأن التقارير التي كانت ترد تباعاً، لطالما تحدثت عن "عسكرة" ردود أفعال الغاضبين، وعمليات اغتيال وتفجير متوقعة، ومداهمات لمواقع وأهداف أميركية تحاكي واقعة الاقتحام الدامي لمبنى الكونغرس. المشاهد التي لم تتوقف وسائل الإعلام والمحطات الأميركية عن بثها والتعليق عليها، ذكّرت كثيرين من أبناء منطقتنا، بزمن الانقلابات العسكرية و"البيان رقم ا"، وعمليات الانتخاب المزورة، وأعمال العنف التي تصاحب مظاهر الاحتجاج والتعبير عن الرأي في بلداننا ... ما الذي يحدث في الولايات المتحدة، وما حكاية "جمهورية الموز العظمى"، وكيف سينتهي المطاف بهذه العملية، هل هي بداية انهيار "الإمبراطورية"، أم أننا أمام "فاصل دموي قصير" تعود بعده الدولة الأعظم، لمزاولة يومياتها المعتادة؟
طوفان الأسئلة والتساؤلات لا يتوقف عن التدفق حتى يومنا هذا، والأرجح أنه لن يتوقف في المدى المنظور، مئات المقالات، ألوف المقابلات، ألوف ساعات البث الفضائي، كل هذه الكثافة في التغطية الإعلامية، جعلت الحدث الأميركي، "محلياً" بامتياز، جاذباً لاهتمام شرائح جديدة، لم يعرف عنها اهتمامها بالشأن السياسي، دع عنك الشأن الأميركي الداخلي.
ثلاثة اتجاهات
إن البحث في هذا الركام الهائل من ردود الأفعال والنقاشات التي رافقت الحدث الأميركي وما تزال، يتكشف عن تبلور ثلاثة تيارات في النظر إلى المسألة، تعكس بدورها، ثلاثة اتجاهات "وازنة" في الرأي العام العربي، وفي ظني أن معرفة أوزان هذه الاتجاهات، سيكون هدفاً لدراسات قياس الرأي العام في الأيام والأسابيع القليلة القادمة:
الأول؛ ويمكن وصفه بـ"تيار الشامتين"، ويضم في صفوفه مروحة واسعة من خصوم أميركا التقليدين في المنطقة، هؤلاء وجدوا في سياقات العملية الانتخابية وما أعقبها من عرقلة منهجية ومنظمة لعملية انتقال السلطة، وصولاً لأحداث التمرد ومظاهر العنف و"العسكرة"، ضالتهم التي انتظروها طويلاً: "الإمبراطورية الأميركية في طريقها للانهيار"، الديمقراطية الغربية، تتكشف عن أسوأ ما فيها، وتثبت بالملموس أنها نظام لا يمكن تعميمه، واشنطن تدفع اليوم، الأثمان المناسبة لما فعلته إداراتها المتعاقبة ضد شعوب المنطقة ودولها.
نجح هذا التيار في البناء على نزعة شعبية لا تخفي عداءها للسياسات الأميركية في المنطقة، كما تتكشف عن ذلك، معظم استطلاعات الرأي العام العربي، ولا شك أن هذا التيار، يتطلع بفارغ الصبر، لرؤية واشنطن تغرق في صراعتها المحلية، وتنكفئ إلى همومها الداخلية، فلا تجد الوقت ولا الموارد، لمواصلة أجندات سياساتها الخارجية.
الثاني؛ تيار صديق للولايات المتحدة، بيد أنه وجد في تعثر تجربتها الديمقراطية، ونزوع "الترامبية" للانقضاض على المؤسسات والقضاء وسيادة القانون وصناديق الاقتراع، وبطرق خارجة على القانون، وتميل للعنف وتمتشق السلاح ... وجد في هذه التطورات مناسبة لنعي الديمقراطية ذاتها، وإعادة التأكيد على نظرية "الخصوصية" و"الاستثنائية" التي طالما لجأ إليها لتبرير ديمومة أنظمة الفساد والاستبداد في العالم العربي، فالديمقراطية بالنسبة لهؤلاء سقطت في أكبر معاقلها، ولن يكون جائزاً بعد اليوم، أن تمارس أية إدارة أمريكية قادمة، "الضغط" أو "الوعظ" بقيمها ومبادئها، وقد آن أوان الاعتراف بــ"فضائل الاستقرار" الذي توفره أنظمة الجنرالات والسلالات.
لقد وجد إعلام هذا التيار ومنظّروه، في الحدث الأميركي، فرصة لإطلاق الأصوات العالية، الداعية لإعادة الاعتبار لأنظمة الحكم الاستبدادية القائمة في المنطقة، وتحت شعار "ما حدا أحسن من حدا"، يجري تسويق وتسويغ، ميل هذه الأنظمة الجارف، لاستخدام أسوأ أنواع القوة المفرطة، لمواجهة "فوضى المعارضة" وخبث الدعوات للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.
الثالث؛ ويمكن القول، أنه يتمثل في تيار "الإصلاح والتغيير في العالم العربي"، الذي وإن كان صدم بسياسات ترامب والترامبية، وسلوك الإدارة المشابه لسلوك أنظمة الاستبداد في العالم الثالث، إلا أنه ظل على إيمانه، بأن الديمقراطية، قادرة على تصحيح نفسها بنفسها، وأن عناصر مقاومة "الترامبية" ما زالت كامنة داخل المجتمع الأميركي، بدلالة ما يقوم به القضاء والإعلام والمجتمع المدني والمؤسسات الدستورية، من جهود لاحتواء طوفان "اليمين الشعبوي" والمنظمات العنصرية، و"التيارات الإيديولوجية" الأشد عداءً لقيم حقوق الانسان والتعددية في المجتمع الأميركي.
ربما يكون صوت هذا التيار هو الأضعف، قياساً بالتيارين السابقين، بيد أن نجاح "المؤسسة" الأميركية، في كبح جماح ترامب وفريقه، وشروع مجلس النواب في إطلاق ثاني عملية عزل للرئيس في ولاية واحدة، قد أشعر هذا التيار، بصحة رهاناته، وأكسب مناظراته بعضاً من الصدقية التي تفتقدها روايات وسرديات التيارين الأول والثاني.
فالشامتون بمأزق الديمقراطية من خصوم الولايات المتحدة، لم يعرفوا الممارسة الديمقراطية في بلدانهم يوماً، غالبيتهم على الأقل... والذين وجدوا في تعثر المسار الديمقراطي من أصدقاء واشنطن مناسبة لهجاء الديمقراطية ذاتها، وتبرير استبدادهم وفسادهم، يترقبون بكثير من القلق والتحسب، مقدم إدارة بادين، وما تحمله وعودها من "ضغوطات محتملة" عليهم، في هذا المضمار ... أما الإصلاحيون العرب، فلديهم أجندة، يتطلعون لأن تتمكن إدارة بايدن، من مساعدتهم للعمل على إنجازها، وفي صدارة أولوياتها، تعميم ثقافة حقوق الانسان من دون تمييز أو معايير مزدوجة، بدءا بحق تقرير للشعب الفلسطيني الذي يواجه آخر احتلال على سطح الكوكب، وانتهاء بحقوق النساء والأقليات والفئات المهمشة في عموم المنطقة.
أما الرأي العام العربي، الموزع على هذه التيارات، والغاضب تقليدياً وتاريخيا على السياسات الأميركية المتعاقبة في المنطقة، فهو يريد أن يرى أفعال الإدارة المقبلة، لا أقوالها ... فقد سئم من وفرة الوعود والتعهدات الجميلة والبراقة، والتي غالباً ما تتكسر، عند اصطدامها بأولويات إسرائيل، أو بمصالح كارتيلات النفط والسلاح الأميركية