بقلم _ عريب الرنتاوي
خطوط التماس على جبهات إدلب وأرياف حماة وحلب، اشتعلت كما لم يحصل منذ اتفاق بوتين – أردوغان على إخضاع هذه المنطقة لقواعد «خفض التصعيد» ... الطيران الروسي والسوري دخل على خط المواجهة الواسعة، والمعارضات المسلحة بقيادة «النصرة» تواصل تحرشها بالمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية، فيما طائراتها من دون طيّار، لا تتوقف عن التحرش بقاعدة «حميميم» الروسية، فيما يُعد خرقاً لخط أحمر روسي عريض.
هل بدأت معركة استرجاع إدلب للسيادة السورية وتصفية جبهة النصرة، في آخر وأقوى قلاعها على الأرض السورية، أم أن الهجمات العنيفة وغير المسبوقة التي تنفذها سوريا وحلفاؤها، ما هي إلا محاولة لإنهاء التردد التركي، ودفع انقرة للوفاء بالتزاماتها المقطوعة في سوتشي، وتحديداً لجهة الفصل بين معارضة معتدلة وأخرى إرهابية، إدماج الأولى في العملية السياسية وتصفية الثانية باعتبارها تهديداً للأمن والسلم الدوليين؟
حتى الآن، لا يبدو أن لحظة «أم المعارك» في إدلب قد أزفت، حتى أن الرئيس بوتين قال قبل بضعة أيام، وفي معرض تأكيده على ضرورة استئصال الإرهاب من سوريا، ومن آخر معاقله فيها إدلب: إن أمر المدنيين في المحافظة والأرياف المجاورة، يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار، وأن يقرر شكل المعركة ومساراتها وأدواتها وتوقيتاتها، لا سيما وأننا نتحدث عن أكثر من ثلاثة ملايين سوري يقيمون في هذه البقعة الجغرافية.
لكن دمشق، كما موسكو، ضاقت ذرعاً باستفزازات جبهة النصرة، خصوصاً بعد أن دانت لسيطرتها معظم مناطق المحافظة، أو أكثر من تسعين بالمائة منها، إذ ألحقت سلسلة من الهزائم النكراء بقوى المعارضة الأخرى، بمن فيها تلك المحسوبة على تركيا والمرتبطة بأجهزتها الاستخبارية ... كما أن دمشق، وكذا موسكو، ضاقت ذرعاً بإحجام أنقرة أو عجزها عن الوفاء بالتزاماتها المقطوعة في قمة بوتين – أردوغان في سوتشي ... دمشق لا تثق بنوايا القيادة التركية، وتعتبرها جزءاً من المشكلة، فيما موسكو لا تكف عن البحث عن أعذار لتركيا وهي ترجئ استحقاقات الحسم في إدلب المرة تلو الأخرى.
لدمشق أولويات ضاغطة، فأمن حلب واللاذقية ومساحات واسعة من الشمال الغربي، ما زال رهناً بقرار النصرة وحسابات «أبو محمد الجولاني»، فيما تنظر موسكو للمسألة من منظور أكبر، يتعلق أساساً بصراعها مع واشنطن على تركيا، ومن ذا الذي سينجح في جذب أنقرة إلى جانبه: بوتين أم ترامب... لكن حين يتعلق بأمن القوات والمعدات الروسية في «حميميم»، فإن موسكو عادة ما تخرج عن حذرها وحساباتها السياسية الأكبر، لتلجأ إلى تفعيل الخيار الأمني / العسكري.
موسكو مرتاحة لـ»صلابة» الموقف التركي المقاوم للضغوط الأمريكية بخصوص صفقة صواريخ «إس 400»، بيد أنها لا تخفي قلقها من «التسريبات» الأخيرة التي تتحدث عن قرب التوصل إلى تفاهمات أمريكية – تركية بخصوص «المنطقة الآمنة» في شمال شرق سوريا ... مثل هذا الأمر قد يدفع موسكو للتحرك ميدانياً إلى جانب دمشق والاقتراب من مقاربتها لملف إدلب، وإن كانت الصورة لم تتضح حتى الآن، ولم يصدر ما يكفي للتعرف على «خواتيم» المحادثات التركية – الأمريكية.
في ظني أن جولة التصعيد الأخيرة في إدلب وحولها، هي رسالة تذكير روسية – سورية لأنقرة، بأن عليها أن تفعل ما تعهدت به، قبل أن يجد الطرفان وحلفاؤهما أنفسهم مرغمين على أخذ زمام المبادرة، والتحرك من جانب واحد، لتخليص هذه المنطقة، من أكبر تجمع إرهابي في تاريخ البشرية المعاصر، لم تر مثله أفغانستان أو غيرها من ساحات «الجهاد العالمي».
لكن تركيا على ما يبدو، ما زالت تراهن على دفع النصرة لـ»تغيير جلدها»، وإن شكلياً، وأن تعرب عن استعدادها للانخراط في مسار الحل السياسي أو عدم تعطيله على الأقل، فتركيا لا تريد أن تفقد واحدة من أهم أوراق الضغط التي تحتفظ بها، ولذلك نراها تبادر إلى «تسيّيج» إدلب بخطوطها الحمراء ... وتركيا لا تدري ماذا ستفعل بألوف المقاتلين في حال نجح الجيش السوري في اجتياح المنطقة وتطهيرها ... وتركيا تخشى موجات جديدة، واسعة وربما مليونية، من اللاجئين، خصوصاً وأن ورقة اللجوء السوري فقدت وظيفتها وقيمتها.
ربما ما زال مبكراً الجزم بأن «أم المعارك» في إدلب قد بدأت، ولكن الاستعصاء على تلك الجبهة، يدعو للاعتقاد بأننا نقترب بخطوات متسارعة من لحظة الاستحقاق.