بقلم - عريب الرنتاوي
لم نكن نبالغ حين ذهبنا للقول ذات مقال، أن القرار بوقف "التنسيق الأمني" بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، يعادل قراراً بحل السلطة ذاتها، أو دفعها إلى حافة الانهيار... اليوم، وبعد قرار السلطة، وعلى لسان رئيسها عن إبلاغ الجانب الإسرائيلي بقرار وقف هذا التنسيق، نعود لطرح الإشكالية ذاتها، ولكن بقدر من التفصيل.
"التنسيق الأمني" بين كيانين مستقلين، إن في الحرب على الإرهاب والجريمة أو لجهة تبادل المطلوبين والمجرمين، أو لحفظ أمن الحدود وسلامتها، ليس له مساس بالترتيبات الأمنية الداخلية لكل منهما، ولا أثر مباشراً لهذا التنسيق، على حياة ومعيشة الغالبية العظمى من مواطني الكيانين، الذين قد يمضون حياتهم من دون أن يعرفوا بوجود هذا التنسيق أصلاً، اللهم إلا في حالات فاقعة ونادرة، من نوع تسليم هذا المطلوب "الخطر"، أو الكشف عن معلومات موضع اهتمام من قبل الرأي العام.
في الحالة الفلسطينية، تبدو الصورة مختلفة تماماً ... كل فلسطيني في مناطق السلطة، وهي إما خاضعة للاحتلال المباشر (القدس والضفة الغربية)، أو عرضة لحصار محكم، مديد ومرير، كما في قطاع غزة ... حياة كل فلسطيني من الملايين الخمسة الذين يقيمون في هذه المناطق، متأثرة حتماً بديمومة هذا التنسيق، مستواه وسويته، بما في ذلك سكان المناطق المصنفة (أ) وفقاً لتقسيمات أوسلو، وهي أقل من 10 بالمائة من مساحة الضفة الغربية.
لن تتمتع قيادات السلطة المدنية والأمنية بحرية التحرك (النسبية) بين المحافظات الفلسطينية، كما كانت تفعل من قبل، فتلك الحركة محكومة بتنسيق أمني مسبق، حتى أن الرئيس الفلسطيني لن يكون بمقدوره مغادرة منزله أو مكتبه، زيارة بيت لحم أو السفر للخارج من دون تنسيق أمني مسبق مع السلطات الإسرائيلية ... لن تستطيع الأجهزة الأمنية تحريك وحداتها في مختلف المناطق، من دون هذا التنسيق ولن يحصل المواطن الفلسطيني على كثيرٍ من الخدمات التي توفرها له سلطته، من دونه، أقله لجهة الاستحصال على الوثائق والسفر خارج الأراضي المحتلة أو العودة إليها، إذ حتى ترتيبات "المعابر والحدود" واجراءات السفر بقصد العمل والدراسة والحج والعمرة، لن تظل حالها من دون الحصول على موافقات إسرائيلية تأتي عادة من خلال ضباط الارتباط في أجهزة التنسيق الأمني المتناظرة.
من دون تنسيق أمني، سيكون حال الفلسطينيين في الضفة الغربية أسوأ بكثير من حال إخوانهم وأخواتهم في القطاع المحاصر، حيث تتولى حماس القيام بمعظم الترتيبات الأمنية المتعلقة بالقطاع وأهله، دونما حاجة للعودة إلى "المسؤول الإسرائيلي"، باستثناء تلك المتصلة بحركة المعابر وتنقل السلع والأفراد عبرها ... وحين يكون معبر رفح سالكاً في الاتجاهين، فإن التنسيق الأمني مع مصر، هو المطلوب في هذه الحالة، وليس التنسيق مع إسرائيل، مع أن أحداً ليس بمقدوره التأكد من أن مصر لا تنسق مع إسرائيل بشأن حركة الفلسطينيين على المعبر، منذ أن انهارت الصيغة الدولية الناظمة لحركة المعبر بعد قيام حماس بانقلابها على السلطة في العام 2007.
بمعنى آخر، سيكون بيد إسرائيل وحدها، أن تقرر ما إذا كان بمقدور السلطة الاستمرار في أداء وظائفها وخدماتها لشعبها أم لا ... وهنا، يبرز السؤال: هل يمكن لإسرائيل أن تواصل منح الموافقات و"التسهيلات" التي يطلبها الجانب الفلسطيني من دون أن تحصل في المقابل، على تعاون وتنسيق تامين في المجالات الأمنية التي تهمها، وتتعلق بأمن مستوطناتها ومستوطنيها؟ ... لماذا تفعل ذلك، سيما في مناخات التوتر السائدة في العلاقات بين الجانبين على خلفية صفقة القرن وتوجه حكومة التناوب الإسرائيلية لضم غور الأردن وأجزاء واسعة من الضفة الغربية؟
نحن لسنا متأكدين بعد، ما إن كانت السلطة قد قررت فعلاً (وليس قولاً فحسب) وقف تنسيقها الأمني مع الجانب الإسرائيلي، ثمة شكوك كبيرة ما زالت تحيط بالقرار الفلسطيني، وثمة من يقول أن السلطة تريد أن تُبقي على مستويات أدنى من هذا التنسيق، وغالباً لتسهيل حركة قادتها وكوادرها وأجهزتها ومواطنيها، بيد أن السؤال المطروح مرة أخرى: وهل ستقبل إسرائيل بالحد الأدنى من التنسيق، بعد أن استمرأت الحد الأعلى منه طوال ربع قرن أو أزيد قليلاً، وما الذي سيجبرها على فعل ذلك، وهل ستفضي ضغوطها إلى منع السلطة من اتخاذ قرارها بهذا الصدد، أو تفريغه من أي مضمون جدي له، في حال كانت اتخذته أو حين تتخذه؟
ثمة ما يتعين استذكاره، ونحن نتناول "حكاية" التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل: في أزمات ثنائية سابقة، جمدت إسرائيل أموال "المقاصة" التي تقتطعها من دافعي الضرائب الفلسطينيين وتسلمها للسلطة بعد "خصم" أثمان الخدمات التي تحصل عليها السلطة من إسرائيل في مجالات عدة، من بينها الطاقة والوقود وغيرها ...لكن إسرائيل كانت حريصة دوماً على استمرار تدفق المال الفلسطيني إلى حسابات الأجهزة الأمنية الفلسطينية ... الشيء ذاته، كانت تفعله الإدارة الأمريكية، فالوظيفة الأهم للسلطة من منظور أمريكي – إسرائيلي، هو "التنسيق الأمني"، إلى جانب مهام أخرى، أقل أهمية، من نوع خفض كلفة الاحتلال، وإشاعة الوهم بوجود "كيانية" فلسطينية مستقلة، وهم استقلال وسيادة وتقرير مصير.
ولن تكون إسرائيل معنية بوجود السلطة أو استمرارها، إن هي أقدمت بالفعل، على وقف التنسيق الأمني معها ... وإسرائيل منذ أزيد من عشر سنوات، تتحضر لسيناريو حل السلطة أو انهيارها، وقد عمدت إلى إعادة إحياء "الإدارة المدنية" التي كانت معنية بإدارة شؤون الفلسطينيين قبل قيام السلطة، ولدى بعض القادة الإسرائيليين "نظرية" تقول: إنه من الأفضل التعامل مباشرة مع "قيادات فلسطينية محلية" على مستوى المدن و"الكانتونات" الفلسطينية من حصر التعامل مع سلطة فلسطينية مركزية واحدة في رام الله، إذ ربما يخدم هذا الشكل من "الإدارة المحلية" أهداف إسرائيل بضم مزيد من الأراضي الفلسطينية وتبديد فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة، أكثر من الشكل القائم والذي جاء بنتيجة اتفاقات أوسلو وما تلاها.
لست هنا بصدد اقتراح الإبقاء التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، فالسلطة منذ أن فقدت الفرصة للتحول إلى دولة، باتت عبئاً على المشروع الوطني الفلسطيني، بدل أن تكون ذخراً له.... ولكنني بصدد محاولة فهم ما الذي تعنيه خطوة من هذا النوع، وتفسير التردد الذي أبدته القيادة الفلسطينية في اتخاذ هذا القرار، برغم تلويحها به مرات عديدة، أقله منذ العام 2017 ... على السلطة أن تدرك وهي تتخذ قرارها "الكبير" هذا، أنها ستدخل مرحلة استراتيجية جديدة، قد لا تبقى معها السلطة ذاتها، فالانهيار ينتظرها "عند الكوع"، وفي ذات اللحظة التي تقرر فيها إسرائيل الامتناع عن تسهيل قيامها بوظائفها وتقديم خدماتها لشعبها ... وقف التنسيق الأمني بكل المعاني، يعادل حل السلطة أو مواجهة الانهيار.