بقلم:أسامة غريب
تشعر حين تشرع فى قراءة المجموعة القصصية «كم مرة سنبيع القمر» بجو خاص يغلفها ويضفى عليها غلالة رقيقة من الشوق.. نعم هى قصص تفيض نفوس أبطالها بالشوق، وتشعر أثناء قراءتها بأن الأبطال قد تراصوا خاشعين فى محراب التوق حتى الفناء، ولعل كاتبها الأديب أسامة علام لم يقصد هذا، لكن العمل انطبع بصفات كاتبه وسماته التى يعرفها ونعرفها عنه. تشعر من أول صفحة أن الطبيب البيطرى الأديب المهاجر لأمريكا الشمالية تنطبع عليه الصورة التى كتبها صلاح جاهين حين قال: «أنا الذى عمرى اشتياق فى اشتياق.. وقطر داخل فى محطة فراق. قصدت نبع السم وشربت سم.. من كتر شوقى وعشمى فى الترياق». ومن الجلى أن أسامة هنا يبحث عن الترياق بدأب لا يعتريه كلل.
من أول قصة حتى آخر قصة ونحن نبحر معه فى ثنايا تجاربه الصباحية والليلية بنيويورك وما حولها.. لم يقدم صورا فوتوغرافية عن أيامه لكنه قدم بورتريهات غامضة مغلفة بعبق خاص، وترك سحره يتسلل لنفس القارئ فيمنحه رجفات نفسية تشبه رجفات أسامة علام نفسه وهو يبحث عن المعنى الكامن خلف أشياء بلا معنى. القصص يغلب عليها طابع الحزن، وهو ليس حزن الفواجع لكنه الحزن النبيل الشفيف، لذلك فقد أفرد للدموع مكانا يليق بجلالها حتى إن إحدى القصص يتم فيها تقطير وبيع الدموع. أما القطط الصغيرة فتملأ على الكاتب أيامه ولا يستطيع الفكاك منها حتى وهو يكتب عن أشياء لا علاقة لها بالقطط!.. دائما الحيوانات الصغيرة التى أدمن مصادقتها موجودة فى القشرة الخلفية لرأس الكاتب، وقد يكون الحنان الشديد الذى يشعر به نحو البشر نابعا من ملازمته اليومية للحيوانات فى أضعف حالاتها حين يأتى بها أصحابها إلى عيادته ملهوفين.
ولهفة البشر على كائناتها الصغيرة منحتهم كريديت لدى «الأديب البيطرى» الذى يشغله الفن والقطط والكلاب، وتمتلئ دماغه بالأفكار التى يناقشها مع المشردين حين يجلس إليهم فى الحدائق وعلى الدكك فوق الجسور وفى المقاهى والطرقات، وهو حين يجالسهم يقبل عليهم بتساؤلاته ويدفع إليهم بحيرته، ورغم غرابة أطوار معظمهم فإنه يصدقهم ويتفاعل مع أحزانهم ويراها بعضا من حزنه الدفين، وكل من هاجر واحترف الغربة لديه هذا الحزن يغلف نفسه، فإذا كان أديبا كصاحبنا فإنه لا يستطيع فكاكا من أحزانه الأبدية وغربة روحه. قصص هذه المجموعة تشعر أنها مكتوبة وسط الغمام والديم، وتحس أنها مشبعة بأجواء غائمة رطبة، وأبطالها ليسوا بالضرورة مكسورين لكننى شعرت أن معظمهم معطوبون وهو العطب الذى يلحق بالمرء لمجرد أن يحاول أن يفتح لنفسه شباكا للسعادة، وأظن أن محاولات أسامة علام لالتماس العزاء والسلوى لدى أبطاله تشبه من يحاول أن يغسل أحزانه فى نهر الأحزان!.. وحتى الفتاة المخمورة التى صادفها على شاطئ المحيط فقد تركت الناس كلهم وأسرّت إليه بأنها اشترت القمر.. اشترته أكثر من مرة، وهو من جانبه لم يندهش ربما لأنه هو أيضا اشتراه أكثر من مرة.