بقلم: سحر الجعارة
لماذا تصر بعض المواقع الإخبارية - الإلكترونية على وداع الفنان بنشر صوره فى لحظات الضعف والمرض، والخوض فى سيرته الشخصية، عدد زيجاته وأولاده.. وتنسى تماما ما قدمه لذاكرة السينما وللوطن؟!. رغم أنها «نادية لطفى» الإنسانة الشجاعة التى وقفت إلى جوار النجم الراحل «رشدى أباظة» عندما اقترب من الموت وحاول البعض استغلال حالته فى صورة فوتوغرافية، فأقامت «نادية» كعادتها بجوار غرفته بالمستشفى حتى ترعاه وتمنع أى اعتداء على خصوصيته.. لكننا شعب لا يعرف معنى الخصوصية، يقف البعض منا على أعتاب مسجد «عمر مكرم» لالتقاط صور الفنانين والمشاهير وهم فى حالة انهيار خلال أخذ العزاء!. لقد ارتبطت كلمة «الحلوة» فى ذهنى بالفنانة القديرة «نادية لطفى».. ولا تزال بعد رحيلها تلك صورتها المفضلة: الحب المستحيل لحليم فى «الخطايا».. ولُحمة الأديان فى «الناصر صلاح الدين».. إنها «الإنسانة» التى سخّرت نجوميتها لخدمة (جماعة الحمير) التى أنشاها الفنان الكبير «زكى طليمات» فى الثلاثينيات. «نادية لطفى» واحدة من جيل العمالقة الذى كان يعرف قيمة «العقل» لبناء شخصية الفنان، ومعنى «المواقف الوطنية».. هذا الجيل الذى كان يتغذى على الثقافة لينتج فنًا يتجاوز حدود الإبداع.. لأنه قادر على «التغيير» والقيام بدور إصلاحى وتنويرى فى المجتمع. الفنانة الراحلة «نادية لطفى» تجاوزت فكرة الفنانة المبدعة إلى أنها أصبح لها دور وموقف خلال نكسة 1967.. فكانت متواجدة فى المستشفيات وأيضا خلال حرب أكتوبر.. وفى مطلع الثمانينيات عندما ذهبت إلى لبنان لحماية «ياسر عرفات» من الانتقام الإسرائيلى، كانت تسجل بالكاميرا كل شىء، ووثقت تلك اللحظات التاريخية.. ربما لهذا كرّمها مؤخرا الرئيس الفلسطينى «محمود عباس أبومازن» بوسام منحه لها وهى ترقد بمستشفى المعادى العسكرى. «نادية لطفى» عنوان عريض لمرحلة كانت السينما تلعب - خلالها - دورًا رئيسيًا فى تغيير العقل الجمعى، بكُتابها وفنانيها ومخرجيها، كانت الشاشة مساحة حرة للتنفس والترفيه.. لم تكن لافتة «السينما النظيفة» قد حبست الفنان فى إطار مذهب وحرمته من متعه التلون بين الشخصيات ومعايشة أكثر من حالة والتعلم من مدرسة كل مخرج.. فزنوبة العالمة فى «بين القصرين» هى النقيض الذى يؤكد النمط المثالى بنادية فى «عدو المرأة». لقد كتبوا الكثير عن حياة «نادية لطفى» ومشوارها الفنى، لكنى أتحدث عن «حالة ثقافية»، عن كوكبة فكرية وفنية كانت تلتئم مثل حبات اللؤلؤ لتسجل واقعًا مؤلمًا أو تمنحك أفقًا أرحب من خيالك.. تهديك الجمال فى أرقى أشكاله، وتصدمك بقسوة لتفيق من غيبوبة «الأحكام المطلقة» على البشر والعقائد وعواصم القهر أو الحرية. بكل أسف ضاعت من بين أيدينا «ذاكرة السينما»، باعتها شركة لشركة أخرى، وربحوا جميعًا وخسرنا نحن تراثنا الفنى، أصبحنا نتسوله من قناة فضائية أو نسدد ثمنه رغم أنه «ملكٌ لنا».. هكذا جاء جيل الألفية الثالثة ليمحو كل ما سجلته الشاشة المصرية من بصمات محفورة فى الوجدان العربى. حين تتذكر أدوار «نادية لطفى» لن يقترب الريموت كنترول من قناة مصرية، ستجدها «حصريًا» على قنوات أخرى عربية.. إنه «المنتج» الذى دفع «ملاليم» فى القصة والسيناريو والحوار والإخراج، واحتكر النجوم بأجر هزيل.. ثم ألقى بكل هذا خارج المدار الفضائى المصرية. وقتها إن حدث هذا كتبت أنها «جريمة»، لكنها إحدى آليات السوق الحرة ألا تصادر الملكية الخاصة، وألا تنازع أحدًا فى حقوق الملكية الفكرية مادام يملك توقيعًا لنجوم «على بياض»، وهكذا تمت أول صفقة لهدم «القوى الناعمة» لمصر. «نادية» وحدها يمكنها أن تلخص لك كيف سيطرت حتى: بالصمت فى فيلم «المومياء» على وجدان المشاهد العربى، وتملك أن تلخص لك مضمون «القوى الناعمة» وتأثيرها فى العالم العربى بأكمله.. لأنها لم تكن مجرد «صورة ملونة» ولا أداء مبهرًا.. بل كانت «شخصية فريدة» تقف على أرضية صلبة من الثقافة التى شكلت وجدانها وحددت بوصلة أعمالها الفنية. ما أتعس النجم حين يكون مجرد رقم فى «شباك التذاكر»!، وما أسعد النجم الذى ينقش اسمه فى سجل «الخلود».. فتلهث خلفه من مشهد إلى آخر.. ويتعلم منه جيل خلف جيل.. هذه هى «نادية لطفى».
إنها أقوى من الغياب، ومن السطو المقنن على أفلامها، ومن كل الأجيال التى حصدت الثروة والنجومية ولم تترك «بصمة» فى أرشيف السينما المصرية.