بقلم - حسن البطل
عدتُ إلى هذه «الناسيت»، وهجرت هذه «البيغ»؟ ليس إلى شفرة «الناسيت» لكن إلى أخواتها وأضرابها، لم أهجر ولّاعة «البيغ»، وأكتب دائماً بقلم «البيغ».
كانت «الناسيت» أشهر شفرة حلاقة للذقن، التي لا ينافسها سوى «موس» الحلّاق. هجر الحلّاق موسه، وصار يضع سلاحاً في موسه بعد أن يكسر الشفرة قسمين، ثم يرمي الشفرة المكسورة بعد الحلاقة.
من يتذكّر شفرة «الناسيت» التي كانت في شهرة ماكينة الخياطة اليدوية الألمانية «سنجر» المنقرضة؟ فقط بعض الخيّاطين يستخدم الشفرة في فتق خيوط القماش.
كنتُ أحلق ذقني مرّتين في الأسبوع، مستخدماً آلة حلاقة «بيغ» ذات السلاح الواحد، وصرتُ أستخدم، كما كان أبي، آلة حلاقة يدوية معدنية مُلقّمة بشفرة من أخوات «الناسيت».
عدتُ إلى حلاقة ذقني بآلة حلاقة كالتي كان يحلق بها أبي. قط لم أستخدم ماكينة الحلاقة الحديثة الكهربائية، أو ذات البطارية، كالتي كان أخي يحلق بها، دون معجون رغوة الحلاقة، الذي يبقى الحلّاق وموسه يستخدمه لتطرية الجلد.
عدتُ، كذلك، إلى ما كان أبي يستخدم رغوة حلاقة من «فتافيت» الصابون. يسكب على طاسة معدنية صغيرة ماءً ساخناً، وتلك الفرشاة الصغيرة التي تصنع الرغوة المطلوبة.
قط لم أرَ والدي يستخدم معجون الحلاقة التجاري، وكنت أستخدمه مع آلة حلاقة «بيغ» ذات ذراع البلاستيك، وذات الحدّ أو الحدّين، أو الثلاثة المتجاورة.
في الواقع، بعدما مات أبي، استخدمتُ آلته وشفرة آلته، ولم أستخدم، قط، ماكينة الحلاقة الكهربائية التي كان أخي يستخدمها في حلاقة ذقنه كثيفة الشعر كل صباح. ذقني خفيفة الشعر تكفيها الحلاقة مرّتين في الأسبوع. البعض وجهه «أشعر» ووجهي نصف «أمرد».
مرّة واحدة كل شهر ونصف الشهر أذهب إلى الحلّاق الثرثار كما كل حلّاق، أجلس دون أن أنبس ببنت شفة، وهو الوحيد الذي لا يسألني: هل تصبغ شعرك الأسود الكثيف؟ قلت لزميل أصلع فشل في زراعة شعر مكلفة، إن مت قبله يمكن أن يسلخ فروة شعري ويزرعها على رأسه!
فقط، عند الحلاق أتركه يسبّل شعري ويمشطه، مستخدماً هذا المجفف (السيشوار) الذي ما فكّرت يوماً في شراء واحد، ولا استخدمت قط ماكينات الحلاقة الكهربائية.
أطلقت شاربي في يفاعتي، وبعدها أطلقت شعر لحيتي التي تسمّى «سكسوكة»، في العام التالي للهزيمة الحزيرانية، أي العام 1968.
الآن صار لي من العمر (76 عاماً)، تزوجت خلالها مرّتين وطلّقت مرّتين.. لكن حلقت هذه «السكسوكة» لا أكثر من مرّتين عابرتين؛ مرّة في بغداد لوسواس أمني سخيف، ومرّة في تونس عقب خسارة رهان، بعد الخروج من بيروت. للمرة الثانية قصة طريفة: أرسلت صورة فوتوغرافية لابنتي دون «سكسوكة»، فما كان منها إلّا أن قالت لأمها: «ليش حلقت صورة البابا»؟
اكتفيت من السكسوكة» المعمّرة، رفيقة عمري، ولم أطلق شعر وجهي ولا مرّة، كما صارت المسألة موضة جديدة، كما قصّات رأس الشعر الشبابية الغريبة، وكنت في ريعان شبابي أترك شعر رأسي «خنفسياً» كما كانت الموضة في تلك الحقبة للفدائيين والبوهيميين!
***
كل ما سبق أعلاه يخصّ المزاج الشخصي، الذي يبدو للآخرين من علامات الشخصية المميزة.. لكن ثمة ما يتعدّى المزاج في عادات الاستحمام، خاصة في عزّ شهور الشتاء الباردة، فأنا لا أُحبّ الاستحمام بماء ساخن بوساطة الكهرباء، أو بوساطة تسخين الماء بالغاز المسمّى هنا «بويلر» والمسمّى في الشام «سخّان».
أتحيّن أيّاماً شتويّة ساطعة نور الشمس، أو شمس سماء الربيع والصيف، حيث تنساب مياه المرشّة بالحرارة ذاتها، بينما تتعاقب في ماء الاستحمام بالغاز بين هبّة ساخنة، وأخرى باردة، وعليك أن تعدل حرارتها مرّات!
عندما كنتُ مستأجراً لبيوت كانت غرفة الاستحمام ضيّقة، لكن لمّا صرتُ أملك بيتاً، أو شقة في عمارة، أحرص على تقسيم وتشطيب غرفها، وأوصي بحمّام شخصي فسيح نسبياً، ربما لأنني أكره الأماكن الضيّقة والمرتفعات الشاهقة، ولا بدّ من حمّام فسيح يجاور غرفة النوم، وآخر ضيق يجاور غرفة الضيوف، وشقتي هي شقة العازب، وقال لي حسين جميل البرغوثي يوماً إن «بيتك يشبهك»، وعندما زرته كان بيته يشبهه، أيضاً، لكن تبدو لي معظم بيوت الناس متشابهة في أثاثها وديكوراتها ولوحات جدرانها ذات المناظر الطبيعية أو الآيات الدينية ذات الأطر الضخمة والفخمة و»ربي احفظ هذا البيت» وما شابه!
***
لا بأس من انعطافة ليس إلى تياسة السياسة، بل إلى الثقافة، حيث يصدر الأصدقاء روايات ودواوين شعر، ذات عناوين ناجحة أو غير ناجحة. ومن العناوين الناجحة أذكر مجموعة شعرية، أولى وأخيرة، أصدرها زميلي سعادة سوداح، الذي رافقنا زميلاً في بيروت وقبرص واختار منفاه الجديد في كندا.. «ويسبسب» على السلطة الأوسلوية!
له مجموعة مُعنونة «نشيد التعب».. لكنه منذ عرفته لم يتعب قط من استمرار انتمائه للحزب السوري القومي الاجتماعي، وأنطون سعادة معلّمه كما كان معلّم والده.
يُقال إن خير ما في أعمدتي ليس محتواها بل عناوينها. عندما جمعت بعضها في أربعة كتب كانت عناوينها: «أنت يمشيك الزمان»، «حيرة الولد بهاء»، «المكان الشيء إن دلّ عليّ»، «رحلوا وما برحوا».