بقلم : عائشة سلطان
يصف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي مجتمعات الحداثة القاسية اليوم بأنها: «مجتمعات تتميز بالحركة والتدفق والمرونة والاستهلاك بلا حدود: لكنه الاستهلاك لأجل المتعة الخالية من المبادئ العظيمة، حيث يجري توجيه الفرد نحو اللذة الدنيوية والمتعة الفردية ولا شيء آخر».
تلك هي خصائص الفرد والمجتمع والأزمنة التي يتحدث عنها ليبوفيتسكي في كتابه «أزمنة الحداثة الفائقة»، حيث ينخر القلق -كما يقول- في عظام الأفراد، ويفرض الخوف نفسه على اللذة والمتعة ويفسد حرياتهم، حيث كل ما يحيط بهم يحذرهم بصوت مسموع وكأنه يدقُّ لهم ناقوس الخطر: ستكونون أفراداً أكثر تعليماً وأكثر تدريباً لكنكم ستغدون أكثر تحطماً أيضاً، ستكونون بالغين بما يكفي وناضجين بسبب تجارب الحياة والتربية والتعليم، ولكنكم لن تكونوا مستقرين بما يكفي والأسوأ أنكم ستكونون قلقين.
يبدو واضحاً أن ليبوفيتسكي يرصد ويرى كيف يجدل الواقع بكل تحدياته وضغوطاته والتزاماته الصعبة، بل وتناقضاته، يوميات إنسان الحداثة بشكل بالغ الحدة، وها هم أصحاب السترات الصفراء في مجتمع بالغ الحداثة كفرنسا يعبرون عن ذلك كله، إنهم يرزحون تحت وطأة تناقضات تزداد حدة، وتستدعي الحرمان والطبقية التي ناضل الإنسان عبر تاريخ طويل في سبيل الخلاص منها، إلا أنها عادت أشد قسوة لتنخر في عظامه ولتفرض القلق والخوف على الإنسان والدولة!
باختصار، تلك هي أيام الحداثة الفائقة كما يصفها جيل ليبوفيتسكي، ويختصرها غضب أصحاب السترات الصفراء، الذين لم تعد مطالبهم محصورة في قضية ارتفاع أسعار الوقود وكثرة الضرائب، لقد اتسع القلق والغضب وتمدَّد ولم يعد قضية ذات بعد ضيِّق، أصبح مأزق الإنسان في دول لطالما صدَّرت شعارات الحداثة والمساواة والرفاهية للعالم، فإذا بها تسقط في فخ الغضب وتحطيم كل شيء، ذاك هو التجلي الواضح لحالة اللاطمأنينة في مجتمعات الحداثة!
إن شبح ثورة طلاب وعمال فرنسا عام 1968 تلوح بقلق أمام سيد الإليزيه ومستشاريه، فهل يعيد التاريخ نفسه، وتشهد فرنسا والعالم تنحي الرئيس الفرنسي على غرار ما أقدم عليه الرئيس شارل ديغول مساء 28 أبريل عام 1969 عندما أعلن تنحيه عن منصبه تحت ضغط الطلاب والعمال وقوى الشعب الفرنسي؟!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان