ناصر الظاهري
من عرف «أبو خلف» كان يدرك كم هي الطيبة التي يتحلى بها، ويدرك أكثر كم كان الرجل يعمل، ويعمل الساعات الطوال، وفي مساحات متباعدة وكثيرة، مكتبه أينما كان، وبيته كان ملاذاً للجميع، يقصده الكثير، ولا يعرف أكثرهم، فيلقاهم بحرارة الترحاب، والود، وقضاء حوائجهم، وتصريف أمورهم، ولو كان من كيسه وجيبه، فتسلل بعضهم لتلك المنطقة الودودة في الشخصية، تلك المساحة الخضراء، وفضاء الطيبة، لينال منها، ويقتنص فرصته، فيضحك الرجل الذي كان يعرف الرجال، ولا يرده، وربما حيّده، لأنه كان يدافع عن قيمة نبيلة في الإنسان، لا يجب مسّها.
«أبو خلف» كان يومه يبدأ مبكراً، ولا ينتهي مبكراً، يتوزع على أمكنة عديدة، وأعمال كثيرة، يلاحقها، مثلما يلاحقه الوقت، ولا يهدأ، ومرات كنت أقول له: «ستنام واقفاً»، ومرات أمازحه: «أبو خلف.. أراهنك بالذي تريد، إذا ما قلت لي كم هاتفاً تلقيت اليوم، أو كم هاتفاً أجريت منذ الصباح»؟
كان أريحياً، وفيه أشياء كثيرة لا متناهية، تجده يعمل ويعمل، حتى يُذكّره الآخرون بالراحة، وتجده من طيبة قلبه، وبساطته أن يمد لك فنجان القهوة، ويحلف إلا أن يرافق ضيوفه إلى الباب، قد «يشب الضو»، ويقوم قبل الجميع، جميلاً كان «أبو خلف» في الأسفار، وأجمل في محبة الوطن، وناسه الطيبين، تجد نفسه غائبة إن حضرت الجماعة، يؤثرهم، ويقدمهم، ويخاف أن يخرج أحدهم وفي نفسه حاجة لم تقض، كان يقول: «لا أريد ولو بعضاً من اللوم يصل لعتبة دار المعَزّب».
ترك «أبو خلف» أعمالاً كثيرة تذكر، وقدم مشاريع ناجحة يفتخر بها، واجتهد في أمكنة عدة، لكنه وإن فارقها، لم تخل من بصمة جميلة تنسب له، كانت على عاتقه أحمال ثقال، وكان هو الكفؤ، وشدة الصبر، وحيث ما يوضع الرجال، كان يسخر ماء عينه، سعياً لرضا من يحب، وما يحب، من وطن، وأهل، ومن له واجب الولاء، والسمع، ومن أجل كلمة: «ونعّم».
«أبو خلف» فزعت من خبر الرحيل المبكر، ولم تسعني القاهرة على رحبها، وتصاغرت الدنيا في العين، وكم هي غير صالحة لعداوة غير محسوبة، وتباغض جاء هكذا، وحده الحب يحييها ويلونها، ويجعلها طويلة على قصرها، «أبو خلف» فجعت والنائبات كثيرة، غير أن لفراقك دونما وداع، أو لقاء كان يؤجل مني، لخجل في النفس أبغضه، هزّني، وعزائي أنني كنت ألقي عليك السلام من بعيد، كلما مررت ببابك، واليوم حينما رأيته يتيماً، شَرِقت بدمع العين.