بقلم - ناصر الظاهري
تبقى ذكريات أول سفرات العمر ماكثة في الرأس، ولا تبرح مكانها، وإن غابت بعض من تفاصيلها، غير أنها سر الدهشة الأولى، والتي ربما تحملها مع سنينك، رغم تعدد الأماكن والاكتشافات وتعدد آفاق المتعة والدهشة فيما بعد، رحلتي الأولى في النصف الثاني من الستينيات كانت إلى البحرين، وعمري ثماني سنوات، هي رحلة فرضتها الظروف حينها، نتيجة تعرضي لكسور شديدة ومعقدة في القدم اليمنى، لوقوعي في بئر مطوعتنا ومعلمتنا حياة «كنّه» الله يرحمها، استحال علاجي في العين أو أبوظبي، فأمر المرحوم الشيخ زايد بسفري إلى البحرين على وجه السرعة، وحمّل أبي ورقة إلى المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، هي مفتاح كل شيء، حينها لا سفارات ولا مكاتب صحية، لكن ما أن حللنا في المنامة، إلا ووجدنا الأبواب مشرعة، والتسهيلات تسبقنا، فأمر المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان أن أدخل «مستشفى نعيم» على الفور، وتقديم كل الخدمات الممكنة والعمليات الجراحية، لقد أحيتني تلك الكلمة «ولدنا ناصر» التي تضمنتها «بروة الشيخ زايد» إلى المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، طيّب الله ثراهما.
في ذلك المستشفى الذي كان يعد من أكبر المباني وقتها، ومن نافذتي المطلة على البحر، رأيت أشياء كثيرة كنت أراها لأول مرة:
- متعة استرجاع الشعور والدهشة أن تكون على متن طائرة محلقة لأول مرة، وتظل تلك الطائرات المحلقة التي تمر وتسمعها وترى بعضها من نافذتك تذكرك، لأنها ستبقى اتصالك الوحيد مع العالم الخارجي.
- ستكتشف أن هناك أماكن في هذا العالم غير مدينتك وبلدك، وأن هناك أشياء مشتركة بينهما، ولو فصلت بينهما محيطات وصحارى أبعد من مد البصر.
- مشكلة السفر الأول إن كان في مرحلة الطفولة، والذاكرة خضراء، ولا وعي أو معرفة تسندك، أنه سيبقى شيء من الغبش والظلال، وأشياء حلوة تتمنى لو أنك قادر أن تفهمها أو تستطعمها، أشياء جميلة، ومفرحة وبس، وكانت سلوة براءتك.
- أدركت أن البحرين يومها تعد بعيدة، والمسافات وآلات النقل حساباتها غير حسابات الوقت الحاضر، وهي متطورة عنا كثيراً، وفيها أشياء كأنها الحلم والدهشة، يكفي أني رأيت أول تلفزيون ملون عندهم، ورأيت طبقات عديدة من البناء المتراكم فوق بعضه بعضاً، يفوق طول النخيل العواوين، وأكبر أشجار العين، لم أكن أعرفه، رأيت أشياء كانت غريبة، لكنها اليوم مألوفة، لو ذكرتها لما عرفتم دهشتها، لكن عدّوها كأول مرة تشاهدها العين، كأن ترى مكيف هواء لأول مرة يبرد وهو ساكن في الجدار، مثل «الروزنه» أو ترى سيارات كالدواب تمشي على الطرقات، أشكال وأرناق، تختلف عن سيارة «حياة غريب، وحياة يحيى، وحياة عبدالله كشيمات، وحياة مسَرّي أو تلك الشاحنة النفطية التي يقودها هلال بن دلموج الله يطول عمره».
- في ذلك السفر الأول، كنت كل يوم أرى جديداً وغريباً، وكنت أحاول أن أجد له مسميات أو مشبهات، فلا أجد له إلا الأسئلة التي ألقيها على والدي أو على ممرضات مستشفى «نعيم»، يومها كنت صديقاً للكبار، فقط أيام الجُمع كانت الممرضات يأخذنني مع أولادهن وبناتهن إلى بساتين المنامة نسبح ونلهو ونتغدى حتى المساء.
- بقيت في المنامة قرابة الثلاثة شهور في المرة الأولى، وشهراً في المرة الثانية، وفي نهاية كل رحلة نذهب شاكرين للمرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، ولا نلقى إلا تلك البسمة والطيبة المتناهية التي لا تفارقه.
- زرت «مستشفى نعيم» بعد أربعين عاماً، فلم أستطع التعرف عليه، ولا أسعفتني الذاكرة في الاسترجاع، فقد طوقته المباني، وبَعُد عن البحر، فبكيت لبكاء ذلك الطفل الذي كان مفارقاً أمه ومدينته وهو بعمر الثماني سنوات.
- أحمل في قلبي شكراً لا أقدر أن أوفيه للبحرين، وحباً لأهلها وناسها الطيبين ليته يكون أكثر وأكبر.