تذكرة وحقيبة سفر 1

تذكرة.. وحقيبة سفر -1-

تذكرة.. وحقيبة سفر -1-

 صوت الإمارات -

تذكرة وحقيبة سفر 1

ناصر الظاهري
بقلم - ناصر الظاهري

بعض المدن تكون قد ارتبطت بها في فترة زمنية معينة، وكنت دائم التردد عليها، والأسباب كثيرة، وفجأة ينقطع بك الحال، وتتحول إلى جهات مختلفة بعيدة وقريبة، غير أن تلك المدن ذات الإقامة شبه الدائمة تحضر بين الحين والحين، لكنك لا تعتزم أن تشد لها الرحال، وهكذا تمضي السنون، وإذا بك تكتشف أن المسافة تتعدى العشرين عاماً أو يزيد، فتعود لها لتعيد لذكرياتك حيويتها، وماذا بقي منها فيك، وفي ذاكرتك، كثيرة هي تلك المدن، مدريد مثلاً، لندن، اسطنبول، بومبي، فتكون الزيارة الجديدة من أجل أن تعود.. لتتذكر، وما إن تحلّ على مدينة مثل تلك المدن بين وداعها بالأمس، ولقائها اليوم تقضت خمس وعشرون سنة، يصعب اللقاء الجديد، وتسحبك إلى قاع ذكرياتها، وتلزمك بصمتها المجبر عليه، فتغدو كناسك ملّ من كل شيء إلا السكينة والهدوء، ومحاورة النفس، هكذا هي «بومبي» التي عرفتها منذ أواخر السبعينيات لعشر سنين متتاليات، وها هي «مومباي» التي لا تعرفها اليوم، تغير كل شيء حتى اسمها، لكن ما إن تبدأ أول خطواتك في طرقها الجديدة، تجرك الأسفار الأولى إلى مكامن الفرح، واللقاءات الجميلة، فتعود تتبع أثر ذكرياتك، هنا تذوقت أكلة «برياني حيدر بادي» ما تزال نكهته، ورائحته في الأنف، وما زال طعمه في الحلق، في ذاك المطعم الذي شاخ كثيراً تعرفت لأول مرة على تلك الخبزة الطريّة اللينة «رمالي روتي» بحيث لم تجدها غير في تلك المدينة الضاجّة بكل شيء، وفي ذلك المطعم «دلهي دربار» الذي شاخ كثيراً، تتذكر بحزن ذلك الحي الفقير حد وجع العظم، حين أجبرك فجر متأخر أن تستقبل صباحك بفنجان شاي بالحليب، خليط بالزعفران «تشاي دود باني كمتي»، وظلت مشاركة الناس البسطاء متعة فطورهم في صحن نحاسي تحمله بين يديك على دكة إسمنتية قاسية، تمتد الخطى باتجاه «مومباي» التي أكلت من ملامح «بومبي»، لكنها لا تجعلك تستمتع بوقتك الراهن، وقتها الذي مضى هو الذي يتسيّد الرأس، باحثاً عن أمكنة زلقة ظللت تتبعها، منتقياً لحذائك اللامع أماكن لم يغمرها الماء بعد، كم شقيت بتلك الرجل اليمنى العرجاء أو كما شقيتها دافعة جثتك الزائد وزنها نحو مخابئ تنشد «القوالي» ليلاً، وقصائد الغزل، والموسيقى السنطورية وإيقاع المعابد، ورقص الحجل، وتلك الجاريات من زمن قد مضى تنضح بالعرق الأنثوي، وبعض عطرهن الرخيص، المشوب برائحة «بودرة التلك» الطفولي، تتذكر أسماء بعينها، أنت الذي كنت تعتقد أنها غابت مع الوقت، ونسيتها حياتك المشتتة بين زوايا العالم، وجهاته الأربع، لما حضرت الآن، وفي أول ساعات «مومباي» التي تدخلها في طورها الذي لم تخبره، ما أبعد السنين، وأحياناً ما أقصرها، ترى هل شاخت تلك الوجوه النضرة يومها؟ كيف هي في عمرها الجديد؟ ما أصعب انثيالات الحياة حين تهجم عليك دفعة واحدة! لما هنا الناس يشيخون سريعاً؟ وتتغير ملامحهم حد التلاشي والعدم، يا.. آه كم كبر ذلك السائق الذي كان يفرح حين تقول له انتظرني في المطار الليلة، وكم زادت مشكلاته مع الحياة، كم بعض الوجوه صامدة في وجه الحياة، وفي وجه الوظيفة، لا تريد أن تترجل إلا ببدلة الشغل المهترئة، حتى بوّاب الفندق العتيق مشطّ البياض لحيته المرسلة، وتخاذلت تلك الأكتاف العالية قليلاً، وبدا أقصر الآن، وحدهم التجار الهنود ما زالوا بطبيعتهم التجارية «البانيانية» الربوية، يربحون، ويشيخون في دكاكينهم ذات الرائحة الكتانية الرطبة، والتي تعطيها تلك المروحة المخلصة في دورانها المتكاسل بؤس الوبر المبتل.. وغداً نكمل

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تذكرة وحقيبة سفر 1 تذكرة وحقيبة سفر 1



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 06:02 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
 صوت الإمارات - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 19:45 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

محمد صلاح يؤكد سعادته بفوز فريقه على ساوثهامتون

GMT 12:49 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

اكتشاف 4 مقابر لأطفال في أسوان أحدهم مصاب بشكل خطير

GMT 19:26 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 11:34 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

أحدث إطلالات جيجي حديد في اول ظهور لها في نيويورك

GMT 20:55 2019 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

4 وفيات اثر حادث تصادم على الطريق الصحراوي

GMT 15:33 2018 الأربعاء ,02 أيار / مايو

أنواع فيتامين "الأوميجا" تعمل على تغذية الجسم

GMT 14:42 2013 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

وحيد حامد في ضيافة خيري رمضان في برنامج "ممكن"

GMT 19:05 2014 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

3 تطبيقات مجانية لمراقبة أداء أجهزة "آيفون"

GMT 14:49 2013 السبت ,06 إبريل / نيسان

الإعلام يساهم في تغير المجتمعات نحو الأفضل

GMT 10:43 2013 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة : غسل اليدين يزيد الطالب تفوقاً

GMT 00:49 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

أفضل عطر نسائي للمرأة العاملة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates