صوت الامارات
لأن الحياة تعلم الإنسان كل يوم شيئاً جديداً، وتكشف له معادن الناس، وتخبره ما يعني النبل والشجاعة والإيثار حينما تحظى به بعض النفوس دون غيرها، فيرتفعون بمنزلتهم بين الخلق، فلا تدري أين يمكن أن تضعهم؟ فوق الرأس، أم تحوطهم بهدب العين، وبعضهم تحتار أين يكون محله، فلا تجد له موقعاً حتى موضع القدم قليل عليه، كما تعلمنا الحياة أن الإنسان يقاس بأخلاقه وأفعاله، وليس بكلامه، وأن الإنسان مهما صغرت مهنته، وقل شأنه عند الآخرين، قادر أن يعلمهم درساً جميلاً في الحياة، لقد أكبرت ما فعلته تلك المرأة البنغالية «صفيّة»، لأنها أثبتت أنها اسم على مسمى، وأنها بفعلها أكبر من مهنتها، فهي ليست «خادمة أو شغالة»، بل هي أخت لربة البيت، وخالة للأطفال الذين تعتني بهم، ومثال جميل لبقية الخدم الذين لا نعرف منهم إلا قضايا الإجرام والسرقة والقتل والهروب، وكل الصفات السلبية التي تحيط بهم، ويظهرون جانبها، ولا ينظر الكثير منا لصفاتهم الحميدة، وتفانيهم في عملهم وإخلاصهم لنا، وأنهم يتحملون الكثير من أجل الحاجة والضرورة، غير أن صفيّة بشجاعتها التي أنقذت أرواح أربعة أطفال من الموت غرقاً، وقدمت نفسها كشهيدة للواجب والعمل، وشهيدة الغرق في البحر، من أجل أن تحيا أربع أرواح صغيرة، لا شك أنها ستبكي صفيّة، وستبقى صورتها ماكثة في رؤوسهم، وفعلها ماثلاً في نفوسهم، هي مثال يقتدى، ومعنى تعلمنا إياه الحياة، فهناك أناس يفرضون عليك بكاءهم، وتمجيد فعلهم، ولا تعرف ما تصنع لرد بعض الجميل لهم، وكبير الإحسان إليهم، لكنهم يذهبون، تاركين كل شيء يتصدع، وكلمات الشكر تجرح الحناجر.
صفيّة ذات الثلاثين عاماً، قضت منها أربع سنوات مع «عائلتها» هنا، ولا أقول مع كفيلها، لأنها أكبر من ذلك، وأثبتت أنها أرفع من ذلك، لقد بقيت تعمل بإخلاص للعائلة في حياتها، وحتى مماتها، وكانت في الوقت ذاته، تجهز لعرس ابنتها التي كانت ستفرح بها هذا الصيف في بلادها، لكن القدر اختارها قبل أن تشهد ما كان يفرح الأم أكثر في الحياة، نحو فرح أكبر لعائلة كانت ستفجع بأربعة من فلذات كبدها، لو لم تقدم صفيّة على إنقاذهم من وسط موج البحر حتى بر الأمان، لكن لأن البحر غدّار، سحب صفيّة نحو زرقة مائه، ولم يخرجها إلا جثة طافية، حيث اختلطت الدموع بين أصوات تشهق من الفرح، وأخرى يجهدها الحزن لغياب صفيّة في الصمت، وبرودة الجسد.