بقلم - علي ابو الريش
تركتنا يا حبيب في الفراغ نهيم فراشات تائهة، فمن سيضيء اتحاد كتابنا، ومصابيح قنديلك منطفئة، من سيمنحنا أجنحة الرفرفة، من سيحلق بالقصيدة، في فضاءات المعرفة، من سيمضي بالعربة، والجواد قد أغمض العينين، وأوتار النشيد كفت عن غنائها، وما عادت التغاريد بطعم الأيام السالفة. تركتنا يا حبيب في منتصف الطريق، وتركت كل عزفنا، ونزفنا، وتركت عطر الأزهار في الحقل بلا بلل.
تركتنا يا حبيب وهذه الأغاني ظلت حزينة، لا يكفكف دمعها، سعينا لتضميد جراحها النازفة. تركتنا وتركت القصيدة، تدوزن لوعتها، لعل وعسى تستعيد صوتك المجلجل، وتستعيد بقايانا المبعثرة، تركتنا يا حبيب، والشعر لم يكمل بعض أبياته الناقصة، وتركتنا والحكاية ما زالت مثل طيور بأجنحة مقصقصة.
أسألك الآن يا حبيب، كيف ستمضي القافلة، والصحراء تتلظى من شمس قيظها، والشعر يكابد لوعة الفقدان، والأيام تمضي مثل أنهار مجففة. تركتنا، وتركتنا، والسؤال الفظيع، يجرح المهج، ويتسرب غيمة قاتمة، نحاول أن نلقي بالأقلام ونقذفها أعواد غاف عابسة، ولكن كيف، وأنت الذي علمتنا، أن الحبر ماء القلوب، وعطره فوح، وبوح، وصدح، نحن الذين نشيعه في الثنايا، والنوايا المبجلة، علمتنا سيدي أن للكلمة سحر السحابات الممطرة، وأن للكلمة، حرز الرؤى والطوايا المسطرة. تركتنا يا حبيب الشعر، يا صائغ الكلمات الساحرة. تركتنا يا حبيب، ولم تزل جدران اتحادنا تردد الصدى، ولم تزل الأمسيات ترتب بعض حنينها إلى ذاك الذي كان يرتب أشجانها، ويمضي بالجداول نحو الأشجار، وأسرار التطلع إلى ثقافة، يمينها، ويسارها، خط استواء يطوق صدر الوطن بحب لا تشوبه شائبة، ومشاعر تنبت في الأرجاء نخيلاً عناقيدها، هؤلاء العشاق، الذين يخفقون تحت جناحيك، نوارس، أحلامهم، فراشات بأجنحة التألق، والتدفق، هؤلاء هم بنات أفكارك، هؤلاء هم الجملة الشعرية التي رصعتها على جبين حياتنا التي منحتنا بريقها. تركتنا يا حبيب، وأنت الذي قلت لنا يوماً إن الحياة رحلة، ونحن ركابها، ونحن صخبها، وخصبها، ونحن المصابيح التي تضيء أفنيتها، ونحن الموجات التي توشوش سواحلها، ونحن الريح التي تنقش على رملها، صورة وطن يخلد بخلود الذين يعشقون الحياة، والذين ينحتون اسمه على سبورة الأمل، والذين يرسمون المستقبل، بشفافية البوح، وأريحية التلاقي، ويذهبون بالمعنى، إلى مجد، ووجد، ووجود، لا يجف حبره، ولا يكف خبره.
تركتنا يا حبيب، ولكنك باق في ضمائرنا، كما أنت أبقيت الوطن في ضميرك، وعياً، وسعيا.