بقلم - علي ابو الريش
عندما تذهب إلى السوق بهدف شراء الرطب، وتدخل في هذا المكان المزدحم بالناس المشترين، والبائعين، وتنظر إلى أشكال، وأنواع الرطب المرصوفة، والمرصوصة في العلب الكرتونية، تتذكر زمانك، زمان النخلة، و(الحابول، والمخرافة، والبيدار) تتذكر رائحة اللوز، وعبق الليمون، تتذكر تلك النهارات الحارة، والقميص القطني الراشح بالعرق والأزار المخطط بفرحك الطفولي، تتذكر لحظات الولوج في حوض الماء البارد، مصحوباً بهدير ماكينة الضخ المائي، وهديل الحمام البري، يغذي مسمعيك بألحان تصل إلى القلب كأنها السلسبيل متسربا في ثنايا العشب القشيب.
تتذكر وأنت مبلل بالقطرات الندية تقف على قارعة الزمن مخضباً بحنين يغسل أيامك، ويوقظ أحلامك، ويسرج فيك خيول الذاكرة إلى منافٍ وفيافٍ، لم تزل تظلل روحك بأوراق من شجر العافية، وتهديك سكر الفرح كلما تجسدت أمامك أغنيات البيدار، وهو يمتطي صهوة النخلة الفارعة، ويمسد أهدابها بأصابع مبللة بالعرق، وجسد يفوح برائحة التعب الجميل.
تتذكر، وأمامك تخفق قلوب الناس الذين يتأملون الرطب المصفود بأكياس بلاستيكية، أو علب ورقية، كأي بضاعة أو عملة تالفة. تتذكر وأنت المعني بهذا النسيج الفطري، يتسرب إليك وكأنه جين غريب يدخل إلى جسدك، فتنتابك القشعريرة، حيث الزمن ليس زمنك، والمكان يقول لك مر من هنا، واتبع طريقك إلى حيث تشاء أقدارك، ولا تتوقف عن فاصلة، ونقطة، بالجملة في هذا الزمن، سائحة، سابحة، سائلة مثل الماء المالح على شطئات شظفه.
خذ حاجتك وامض، ولا تتساءل عن شكل الزمن، ولون وجوه الناس، فكل شيء غادر مكانه، إلى منطقة أخرى من دون ملامح، ولا ذائقة. ولكنك تتذكر رغم الضجيج، تتذكر رغم الغياب، ورغم ما فعلته الأكياس البلاستيكية من اختناق لعناقيد الرطب، ورغم ما كبدت به روح البيدار من إحساس باللوعة، جار ما عاناه من جفاء، وجفاف، وكفاف، وجفول.
تتذكر رغم هذا التصحر في تضاريس المشاعر، لأن النخلة لم تزل خضراء، كما هو قلبك، ولأن الحمامة البرية لم تزل ترفع الهديل أنشودة خلود، كماهي ذاكرتك، ولأن الجمال لم يزل يكسو بلادك، كما هو الجمال في عيون النساء الغارفات من حب الأبدية.
تتذكر ولا تكف تذكراً لأنك من صميم الذاكرة تنهل عنفوان لغتك، وبلاغة أحلامك، ونبوغ عاطفتك. تتذكر لأن الذاكرة، لم تزل في طفولتها، وفي يفوعها، وينوعها، وروعتها، ورشاقتها، وأناقتها ًولباقتها وحنانها الأشبه بغافة تهطل على الصحراء، بوريقات الحياة وخصلات مضفورة من زمن التلاقي ما بين العشاق، على ظهر كثيب لا يمل من التحديق في وجنة الأفق.