أشجار

أشجار

أشجار

 صوت الإمارات -

أشجار

علي ابو الريش
بقلم - علي ابو الريش

للأشجار وعي المكان والزمان، هي بعقل وروح وقلب. عندما تقترب من شجرة بحجم زمانك، وتتأمل الجذع الرهيب، ينتابك شعور بأن للشجرة حلمها بالبقاء كما هي أرواح البشر، تشعر بأن للشجرة ذاكرة بمساحة المحيط، وعمق البحار، وشساعة الصحراء.

هذه السدرة التي تحرس البيت القديم، وتحتضن طيوره، وتحفظ أعشاشه، تكلّمت سراً في ذات سرمدية، وجودية وفاهت بلوعة، كان لها الصدى المريع في صدر المعنى، كانت ترتل حفيفها بلباقة العشاق، وأناقة الأشواق، وتسرد حكاية الغياب الذي مزق قماشة الأحلام، ورمى بالقيم في بئر سحيقة، وباحت عن لواعج، تمشّت بين ضلوع ذاكرتها وقالت ما فاض في قلب الخنساء، وماج في روح نسيبة بنت كعب الأنصارية.

هنا تستوقفك الأسئلة الوجودية، وتفصح عن لوعة، مرّت في الثنايا كأنها الموجة العارمة، فنخرت في سواحل الفؤاد، وحفرت في المهجة، جدولاً ماؤه من دماء ساخنة، أيقظت، فهيضت، وروعت، وتوعرت، وتجهّمت، ووجدت، وصرت أنت في الوجود سحابة ضلّت طريقها إلى الشجرة، فباءت حيل الطير إلى الفشل الذريع.

هذه السدرة مباركة، لأنها لم تخن زمانها، ولم تغادر مكانها، ولم تبن منزلها من طوب الخرافة، بل أذعنت لإرادة البقاء، وتفرّعت، تغرس أغصاناً في الفضاء، متحدّية بريق الوهم، غافية على نهر من ذاكرة خصبة، مفعمة بصور الذين تظلّلوا تحت فيئها، وسبّلوا الجفون وهم يتأملون الطير كيف يبني عشه من دون ضجيج، وكيف يعانق عاشقته من دون مواعيد كاذبة، وكيف يمر نسيم الصيف، وأصابعه تتسلل بين الأعطاف، من دون توسّل، وكيف يأتي المساء، والسدرة تمشّط جدائلها، بمناقير الطير المدنف بحب الأغصان اللدنة، كيف تنشد الأفراخ، أغنيات المساء، وقد خطت أمهاتها رحالها، بعد رحلة البحث عن حبّات الحياة.

تتذكر السدرة، كيف كان قد الظهيرة حامياً ولكنها كانت تدلي بعناقيدها كي تمنحك نبقة اللذة، وتملأك الفرح. تتذكر السدرة في ذلك الصباح عندما كنت في الصبا، غراً، شقياً، تقطف من مهجتها نبتة الشغف، وتغادر تاركاً خلفك أوراقاً مزّقت قميصها، وتركت أزرارها، مقذوفاً على التراب. الآن لم يبق من السدرة سوى أعواد ذاكرة، وخيال جم، يسح بعرق النهايات القصوى، ووجه المرأة التي كانت تنهيك عن الشغب، وتوقظ فيك الضمير، وتقول لك: هذه الشجرة مثلي، ومثلك، لها أرهف المشاعر فلا تمسها بسوء، ولا تدع أوراقها تتساقط كأشلاء جسد منتهك.
وكنت أنت في غرور الصبا تضرب بيد من حديد، ولا تبالي، حتى أيقنت بعد حين، أنك كنت تمضي خارج الفطرة، كنت في صميم العدائية المدمّرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أشجار أشجار



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 08:52 2015 الأحد ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

1.2 مليون زائر لمعرض الشارقة الدولي للكتاب

GMT 23:26 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السودانية هديل أنور بطلة تحدي القراءة العربي

GMT 10:26 2013 الثلاثاء ,20 آب / أغسطس

دار إبداع تصدر الكتاب الساخر "يا صلاة العيد"

GMT 14:26 2013 الخميس ,12 كانون الأول / ديسمبر

10 أخطاء يجب تجنبها عند اختيار ديكورات المنزل

GMT 12:22 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق اختبارات مسابقة "جولدن سينجر" للمواهب

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 23:40 2017 الجمعة ,24 شباط / فبراير

إكسسوارات تمنحك الهدوء والراحة في غرفة النوم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates