«بلا فلسفة»

«بلا فلسفة»!

«بلا فلسفة»!

 صوت الإمارات -

«بلا فلسفة»

بقلم : عبد الرحمن شلقم

 

من أقوال رينيه ديكارت «العقل أعدل قسمة بين الناس» تعبير قلما يغيب عن أسماعنا. في نقاش عابر، حول موضوع ما، قد يطلقه ساخر أو غاضب، عندما لا يروق له ما يسمعه. «بلا فلسفة أو من غير فلسفة»، يعني بها قائلها، دعنا من الهراء، والكلام الذي لا يسمن، ولا يغني ولا يفيد. هكذا هي الفلسفة، عند بعض العامة. الفلسفة منذ بدايتها، أنتجت أعداءها. نضج الفكر الإنساني مبكراً في مدينة أثينا الإغريقية.

كان العقل قوة ضاربة، قارعت قوة السلاح والعنف والحرب. مع طاحونة الزمن، غاب سلاح إسبرطة، وبقي سلاح عقل أثينا يحرّك قوة تفكير البشر. إلى يومنا هذا، نحن نعيش بين إسبرطة وأثينا. أرسطو عقلُ وسؤال، فكَّر وقرأ وكتب. كل ما في الوجود في زمانه، كان حروف أسئلة تزدحم في رأسه. أُعدم سقراط بتهمة التطاول على جبال الأولمب. في كل خطوة، أو قفزة في رحاب الزمان، تتوالد أسئلة ساخنة، لا تبرد أبداً. كل فعل إنساني، هو من مواليد العقل، أي نتاج تفكير، وكل تفكير هو إبداع فلسفي. الأوروبيون والمسلمون العرب، انفتحوا مبكراً على الفلسفة الإغريقية. الكنيسة الكاثوليكية، أعلنت مبكراً الحرب على الفلسفة. تمسك رجال الدين بما جاء في النصوص، وحرَّموا كل اجتهاد فكري في تحولات الحياة. في أواخر العصور الوسطى ارتفعت الأصوات الصادحة بالفلسفة. توما الأكويني أطلق فهمه للعلاقة بين السماء والأرض، بأفكار من داخل الدين، وهو القسيس الكبير، الذي درس أفكار أرسطو وابن رشد. عند العرب أشرقت شمس الفلسفة مبكراً، وكان أبو يوسف يعقوب الكندي، تعبيراً عن مرحلة مهمة في التطور الفكري العربي، لكنه وُوجه بحرب، وصلت إلى حد تكفيره. عشرات الفلاسفة في أوروبا والبلاد العربية، كانوا هدفاً لضربات رجال الدين. أبو الوليد بن رشد، الفقيه والقاضي والفيلسوف، شارح أفلاطون، كان الإضافة الكبيرة إلى العقل الإنساني.

لاحقه الفقهاء المسلمون في الأندلس، وحُرقت كتبه، في حين انشدّ له المفكرون في أوروبا، وكان إضاءة فارقة في بداية عصر النهضة. العشرات من الفلاسفة والمفكرين، دفعوا حياتهم في معارك الفلسفة. وإلى يومنا هذا لم تتوقف هذه المعارك، في البلاد العربية، في حين تجاوزت أوروبا، هذه الحلقة المظلمة. الفلسفة هي القوة التي قدحت عبقرية العقل البشري. لم تتحقق نهضة في أي أمة، من دون زخم فلسفي، يفتح أبواب التطور في جميع الميادين، العلمية والسياسية والاجتماعية والقانونية. بعد اختراع المطبعة في نصف القرن الخامس عشر في ألمانيا، انتشر التعليم في أوروبا. القسيس مارتن لوثر، جمع بين العلم الديني والتاريخ والفلسفة، وثار على كنيسة روما الكاثوليكية، وترجم الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية.

بدأ زمن جديد بعقل جديد. بدأت مسيرة يحرّكها العقل، وتحدوها الفلسفة. برز في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مئات الفلاسفة والمفكرين، وانتصروا على هيمنة الكنيسة، وانطلقت الثورة في علم الفلك والطبيعة والطب والاقتصاد والسياسة والإدارة، وفتحت الأبواب للثورة الصناعية الكبرى، وتراجعت السطوة الديكتاتورية، وانكبّ الفلاسفة والمفكرون على إنتاج قوانين في السياسة والإدارة والاقتصاد. تخلقت دنيا جديدة بإنسان جديد.

قرون طويلة غطى فيها الظلام البلاد العربية والإسلامية، وتغولت محاكم التفتيش على العقول. المطبعة التي اُختُرعت سنة 1445 حُرّمت إلى سنة 1717 في كل البلاد الإسلامية، تحت الحكم العثماني. في تلك القرون المغلقة عربياً وإسلامياً، عبرت أوروبا إلى عصور جديدة.

منذ بداية القرن التاسع عشر، سقطت أغلب البلدان العربية، في قبضة الاستعمار، وغاب التعليم والتفكير والفلسفة، ساد الخطاب الفقهي الموروث، في مجتمعات غاصت في وحل الأمية. أصوات قليلة غامرت بطرح أفكار تنفتح على العصر الجديد، لكن قلما وجدت مستمعاً لها، بل لوحق بعضها وكُفّر.

في السنوات الأخيرة، حدثت هبَّة فلسفية في المنطقة العربية. العمل الموسوعي الضخم، للمفكر المغربي محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي»، فكَّك فيه ما اعتبره مكونات العقل العربي وهي، البيان والعرفان والبرهان. دار حول هذا العمل الضخم، نقاش واسع. المفكر جورج طرابيشي، قضى سنوات طويلة في دراسة ما أنجزه الجابري، ونشر كتاباً بعنوان «نقد نقد العقل العربي». فنَّد فيه بعض ما ذهب إليه الجابري. فلسفة النقد شكَّلت حيوية فكرية في أوروبا وأميركا. مدرسة فرنكفورت أسسها نخبة من المفكرين والفلاسفة، ولعبت دوراً تحديثياً في الثقافة والحياة الغربية.

المفكر المغربي عبد الله العروي، كتب سلسلة طويلة من الكتب عن المفاهيم. بحث فيها جملة من الموضوعات التي تحرك الفكر والحياة. شكَّلت أعماله إضافة مهمة إلى تحفيز التفكير في الفضاء العربي. محمد أركون، قام بمراجعات أكاديمية، للتراث الفكري العربي - الإسلامي. لم يتوقف الجهد الفلسفي، وشهد زماننا بروز قامات فكرية وفلسفية أضافت الكثير، منهم عبد الرحمن بدوي، وهشام جعيط، ومراد وهبة، وزكي نجيب محمود ورجب بودبوس، وغيرهم. المشكلة المزمنة عندنا، أن هذه الأعمال الكبيرة، لم تتنزل إلى العامة، وما زالت عبارة، «بلا فلسفة»، تفعل فعلها في رؤوس الكثيرين. ولا يزال زناد الجهل والتخلف والإرهاب، يقدح من دون توقف.
 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«بلا فلسفة» «بلا فلسفة»



GMT 05:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

يتفقد أعلى القمم

GMT 05:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا و«تكويعة» أم كلثوم

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والنظام العربي المقبل

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

2024... سنة كسر عظم المقاومة والممانعة

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates