تحوطنا في السنوات الأخيرة هذه الثورة العارمة، ثورة التقنية، طوفان من الآراء والأفكار التي تنتشر انتشار النار في الهشيم بيننا بواسطة هذه الثورة الرقمية، وتسقط أقوال مرسلة على عقول أقرب إلى الهشاشة، وربما فاقدة لأي مناعة معرفية، فتصدق، واستخدام تلك الثورة ليس له ضابط أو رابط أو حتى مرجعية عقلية، تجدها تخوض في شؤون الصحة والدين والاقتصاد والاجتماع والتربية، بل في كل مجالات الحياة، وعلى رأسها السياسية من دون دليل أو منطق.
ولأننا في هذه الأيام نشهد ما يمكن أن يعرف بـ(البربرية الأخلاقية) التي تقوم إسرائيل بها ضد الفلسطينيين عموماً، وأهل غزة خصوصاً، فاليمين الإسرائيلي (ذئاب في ثياب) كما خبرنا، فشهد العالم مجزرة إنسانية مما أثار حتى أعتى مناصري إسرائيل من السياسيين في الغرب، ولكن تلك الإثارة هي كلامية وظاهرية، فما زال الغرب، وبعض الشرق، يناصر أو يصرف النظر عمّا تقوم به إسرائيل، وهو لا أكثر من تصرف وحشي، وربما غير مسبوق في نوعه ومستواه، فأهل غزة اليوم يعانون من الجوع والعطش، ونقص شديد في الأدوية، وخوف دائم من القتل في أي وقت، وتنقل لنا المحطات الفضائية هول الرعب وصور الإبادة.
كل ذلك مرصود، ومتعاطف معه من شعوب كثيرة، وبخاصة العربية، التي ترتبط بالشعب الفلسطيني تاريخياً وحضارياً.
الكثير من النقاشات في الاقتراب من المشهد تعتمد على القول إن ما حدث في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على ضخامته هو نتيجة لسبب آخر أهم منه، وهو الحصار على غزة، وفقد الفلسطينيين أفق البقاء كشعب مستقل مثل بقية شعوب العالم، وهذا صحيح على ظاهره، ولذلك حدثت عملية 7 أكتوبر، فهي نتيجة لسبب سابق، قد يبدو هذا التفسير منطقياً أمام كثير من الناس.
ولكنّ هناك بعداً آخر، فكما أن هناك آلية بين السبب والنتيجة، هنا آلية أخرى هي العلاقة بين الفعل وغايته، أي النتيجة النهائية المرجوة من الفعل، هل تحقق كل، أو جزء مما أُريد منه، أم أنه لم يتحقق شيء من ذلك؟
ذلك سؤال مركزي يطرح اليوم بقوة وبصدق، بعد أكثر من نصف عام تقريباً من الصراع، وفقد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كباراً ونساء وأطفالاً، حياتهم، هل «حماس» أقرب إلى تحقيق نتائج بعد كل تلك التضحيات من أهل غزة؟ أم أن أياً من الغايات المبتغاة من الفعل لم تحقق أي نتيجة لصالح القضية؟ ربما ما تم في 7 أكتوبر حقق بعض الغايات لقوى إقليمية حثت عليه وشجعت على اتخاذه، أما تحقيق أي غايات للفلسطينيين أو القضية، فحتى الآن لم يتحقق شيء، كما يلاحظ أي عاقل، كل ما حدث هو خسارة عظمى في البشر، ومن بقي منهم يحيا حياة ضنكاً، ويقع في مصيدة اقتناص الأرواح واليأس.
الشعوب تضحي في صراعها مع الآخر، والتاريخ يسعفنا بالكثير من النماذج، وفي الغالب، مهما عظمت تلك التضحيات، تحققت لتلك الشعوب الغايات التي كانت تسعى إليها، أو على الأقل بعضها، أما في الحالة الصراعية بين إسرائيل و«حماس» أساساً فلم يتحقق شيء لصالح «حماس» أو الفلسطينيين، بل كانت الخسارة الإنسانية واضحة، إلا لمن يريد أن يستمر في لبس النظارة المتفائلة، والتي تزيف له الصورة، وتصور له الخسارة الفادحة انتصاراً ما.
من الوثائق المتاحة التي أصبحت معروفة، كان التفكير في الأساس أن هناك شيئاً في المنطقة اسمه (محور المقاومة)، وهو يعني ذلك المحور الذي يعلن لجمهوره أنه معادٍ لإسرائيل، ومع الحقوق الفلسطينية، وأن أي فعل تتخذه إسرائيل سوف يقابل بأشد منه!
ولكن بعد اشتعال الفتيل في 7 أكتوبر تراجعت تلك الحماسة من ذلك المحور، وأخذ يبرر مواقفه، تارة لم نُستشر فيما حدث، وتارة لم نعلم بما حدث، وأخرى لن نضحي بما لدينا من قوة! مع استمرار في سخونة الحديث المرسل واللفظي عن دعم المقاومة على المنابر.
العالم ينتظر وقف إطلاق النار، ويتمنى أيضاً أن توقف الحرب، مع التنديد بالخسائر، ومع التعاطف العالمي يأتي (الاعتراض على «حماس») بنفس الدرجة، بل بدأت بعض الدول مثل بريطانيا وغيرها تضع المنظمات التي تشابه «حماس» في الفكر والتوجه الآيديولوجي على قائمة (الإرهاب)، والأخيرة متمسكة بأنها يجب أن تستمر في حكم غزة، بل حتى التوافق النسبي بين ثلاثة عشر فصيلاً فلسطينياً في موسكو مؤخراً، والإجماع على حكومة (تكنوقراط) لكل الفلسطينيين، سرعان ما انفرط عقده، واندلعت حرب كلامية قاسية بين «فتح» و«حماس»، بسبب ذلك الإعلان عن الحكومة، ظاهره الاحتجاج على شخوصها، وباطنه عدم التسليم بوحدة فلسطينية، وتأكيد الانقسام وشهوة التفرد بالحكم، حتى على الأطلال!
ما يحدث للقضية الفلسطينية اليوم عالمياً هو نتيجة لكل الأحداث، وعلى رأسها رفض العالم للصلف الإسرائيلي البشع ضد المدنيين، والتعاطف مع الضحايا، مما يشكل فرصة سياسية لم تظهر على مدى العقود السبعة الماضية، وهي فرصة حققتها دماء أهل غزة في الغالب، وليس رصاص «حماس» فقط، أكانوا راضين أم مرغمين في تقديم تلك الدماء، فالنتيجة واحدة، العالم والرأي العام متعاطفان معهم، تلك حقيقة واضحة للعيان، ولكن في الغالب ليس متعاطفاً مع «حماس»، ولا مُقِر بآيديولوجيتها ولا بشعار (محور المقاومة)، لذلك فإن الفرصة سياسية، وعليه يتوجب أن تعامل سياسياً في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، أما إذا قررت «حماس» أن تبقى هي المتحكمة في غزة، واعتبار ذلك (الغاية الكبرى) فإنه في الغالب سوف تفتر الحماسة الدولية. لقد كان على مر العقود مقتل القضية الفلسطينية هو المزايدة، وهي، أي المزايدة، مرض لا بد من القول إنه مدفون في شعارات العقل العربي العاطفي، على مر العقود السابقة، كما أنه مرض لا يبدو أن الشفاء منه قريب؛ لأننا في ثقافتنا العربية نميل إلى التسرع في إبداء الرأي المريح لنا من دون مشقة التفكير!! أو حتى النظر إلى الحقائق على الأرض.
آخر الكلام: الصورة البلاغية في قول ابن الرومي (لو أعطيتني قلماً لحطمت به السيوف والرماح) كناية عن رجاحة العقل على القوة.