كل يوم، وعبر كل الإذاعات والقنوات التليفزيونية، نكتشف أننا جميعًا كعرب نحتفل بإبداع (بلبل مصر) بليغ حمدى.. أمس، كانت ذكراه الـ( ٣١)، حرص الإعلام على زيادة عدد ألحانه، ولم أجد فارقًا كبيرًا فى هذا اليوم عما سبق. ألحانه استقرت ولا تزال فى مقدمة ما يتابعه الجمهور على مدار الساعة.
هل منحنا بليغ ما يستحق؟.. قبل نحو أسبوعين كنت فى زيارة لصديق فى حى الزمالك، ذهبت إلى شارع (بهجت على)، تذكرت أن هنا كان مكتب بليغ حمدى الذى كان يقضى فيه أغلب ساعات يومه، شقة فى الطابق الأرضى تنزل السلم درجات لتصل إلى الردهة، يتصدرها (بيانو) وعلى مقربة منه عود ومكتب صغير، وفى الطابق الأعلى بسلم داخلى تصل إلى غرفة نوم بليغ ملحق به صالون صغير يلتقى فيه مع الأصدقاء. دائمًا حتى بعد زواجه من وردة ظل المكتب هو مكانه الأثير، وكان الموسيقيون عندما يحدث أمر جلل، لا يذهبون للنقابة، ولكن يتجمعون فى مكتب بليغ، حدث ذلك مثلًا يوم رحيل عبد الحليم ٣٠ مارس ١٩٧٧.
أردت أن أطل على المكتب وكيف أصبح حاله!، سألت عددًا من الشباب عن مكتب بليغ حمدى، تعجبوا عندما عرفوا أن بليغ كان يعيش فى هذا الشارع، ولا أدرى، ومع كل احترامى للراحل بهجت على، (الذى أطلقوا عليه قبل ٧٠ عامًا اسم الشارع، فإن الأولى قطعًا أن يصبح اسمه بليغ حمدى).
قدم بليغ حمدى للمكتبة الموسيقية نحو١٥٠٠ لحن، استطاعت أن تخترق حاجز الزمن، والدليل أنه على نحو ٥٠ عاما، على الأقل منها ٢٠، وهو على قيد الحياة كان يحقق أكبر رقم فى الأداء العلنى طبقا للأوراق الرسمية لجمعية المؤلفين والملحنين، وهذا يعنى أن ألحانه هى الأكثر ترديدًا.
الملحن الراحل الموجى الصغير كان يتابع بشغف إذاعة الأغانى الرسمية، وقد لاحظ أن نصيب بليغ من الأغانى أكبر من والده محمد الموجى، قلت له: غير مقصودة، أجابنى: بل مقصودة والإذاعى وجدى الحكيم صديق بليغ يوصى المسؤولين بالاهتمام الأكبر ببليغ، ورحل وجدى قبل عشر سنوات، ولا يزال لبليغ النصيب الأكبر.
هذا ليس طعنا فى موهبة محمد الموجى، والأمر لا يدخل فى باب المقارنة بين موهبتين استثنائيتين، ولكن الـ ١١ أغنية التى أبدعها بليغ لأم كلثوم أحدثت فارقًا فى تكرار اسم بليغ أكثر، وحصوله على هذا الرقم من الأداء العلنى الذى يسبق به الجميع.
لسنا هذه المرة بصدد تناول عطاء بليغ حمدى الموسيقى متعدد الاتجاهات، ولكنى سوف أطل بزاوية أخرى، الأمنيات المجهضة التى لم يحققها بليغ. كانت أمنيته أن تغنى فيروز من ألحانه، وكلف كلا من الشاعرين مجدى نجيب وعبد الرحيم منصور بكتابة أغانى تحمل النبض الفيروزى، وسافر منتصف السبعينيات إلى بيروت، ومعه عدد من الألحان.
المنطق أن هناك من أقنعه بأن اللقاء مع (جارة القمر) سيتحقق واقعيًا وهو لم يحدث. الغريب أن رفيقى الدرب محمد الموجى وكمال الطويل لدى كل منهما قصة مشابهة مع فيروز، كما أن رياض السنباطى سجلت له ثلاث قصائد وحتى الآن لم تسمح بتداولها، وأظنها لن تسمح أبدًا، الأمر حتى لا يساء تفسيره، لا يعنى رفضًا للمذاق المصرى، بدليل أنها غنت من ألحان سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، ولكن لم تحدث تلك الكيميائية مع الآخرين.
بليغ هو الذى باح بتلك الرغبة للقاء فيروز، بينما هى لم تذكر شيئًا.
أمنية أخرى لم تتحقق لبليغ، تقديم قصيدة بالفصحى لأم كلثوم، رصيد بليغ قليل جدًا فى تلحين القصائد على عكس مثلًا محمد الموجى الذى تفوق عليه فى هذا اللون، لن تجد إلا قصائد مع الشيخ سيد النقشبندى مثل (مولاى إنى ببابك)، وأيضا (حبيبتى من تكون) غناء عبد الحليم، أراد بليغ أن يقدم قصيدة بصوت أم كلثوم ورشحته لتلحين (من أجل عينيك عشقت الهوى)، شعر الأمير عبدالله الفيصل، وبالفعل لحن أغلب مقاطعها، وتقاعس عن الاستكمال، وتهرب من الرد تليفونيًا، فقررت الانتقام منه، وأسندت الكلمات إلى رياض السنباطى، حاول بليغ أكثر من مرة الاعتذار للست ووعدها بأنه خلال أيام سيلحن المقطع الأخير، إلا أنها أبدًا لم تقبل اعتذاره.
أراد المحاولة مجددًا، وبالفعل لحن لها من شعر كامل الشناوى (لست أشكو منك)، ولم يمهلها القدر لغنائها، وأسندها بليغ للمطربة المغربية نعيمة سميح وماتت القصيدة مع الأسف يوم تداولها بالسكتة الجماهيرية.
أمنية ثالثة وهى أن ينجب طفلًا يحمل اسمه، وتردد أن أحد أسباب طلاقه من وردة أنها لم تشاركه الرغبة، لديها ابنها رياض وابنتها وداد، ولم تتحمس لطفل ثالث. الأمنية الرابعة أن يحمل شهادة (ليسانس حقوق)، وصل بليغ للسنة الرابعة، وظل على مدى ٣٠ عامًا تتقدم شقيقته صفية بورقة طبية لإدارة الكلية، تؤكد أنه مريض ليتسنى له أن يدخل الامتحان فى العام التالى، وحتى رحيله ظلت صفية حريصة على تقديم تلك الورقة.
الغريب أن أكبر جرح أصاب بليغ حدث بسبب عدم إلمامه بالقانون، وتورط فى قضية انتحار سميرة مليان، وأثناء محاكمة بليغ حرصت على التواجد بالمحكمة، وكان محامى بليغ هو الأستاذ المحامى الكبير محمود لطفى، المستشار القانونى لجمعية المؤلفين والملحنين، والذى استهل دفاعه قائلا إن بليغ قدم لمصر أروع الألحان عشقًا للوطن، وهنا قال له القاضى إننا الآن بصدد الحديث عن متهم بـ(تسهيل الدعارة) اسمه بليغ حمدى.
هكذا كان الاتهام قاسيًا، وأدين بالسجن لمدة عام، قبل ساعات من النطق بالحكم، سافر إلى باريس بناء على نصيحة محاميه، وظل خارج الوطن خمس سنوات، حتى تدخل الرئيس الأسبق حسنى مبارك بعد أن طلب ذلك كل من محمد الموجى وسيد مكاوى وكمال الطويل، وأبرأت محكمة النقض ساحته من تلك التهمة البغيضة، التى حاول السينمائيون استثمارها فى فيلم ردىء اسمه (موت سميرة)، اتفقت كل القنوات الفضائية العربية بدون اتفاق رسمى، على عدم تداوله عبر موجاتها، وتبرأ منه كل من شارك فيه!!.