بقلم: سليمان جودة
جاء وقت على العالم عانى فيه من خطر متجوّل اشتهر بأنه «الذئاب المنفردة»، ورغم أن هذا الخطر توارى بعض الشيء منذ فترة، فإن عواصم كثيرة تستيقظ لتجد نفسها على موعد معه من جديد، كلما ظنّت أنه صار شيئاً من الماضي.
أما الذئاب المنفردة فهي أشخاص ينتمون إلى تنظيمات متطرفة، وقد كنا كلما سقط ذئب منها نكتشف أنه ينتمي إلى تنظيم «داعش» مثلاً، أو إلى تنظيم «القاعدة»، أو إلى أي تنظيم آخر سواهما على طول المُسميات التي نعرفها. وأحياناً كان يتبيّن أن الذئب الذي سقط، أو الذي نفّذ عملية إرهابية ومات فيها، لا ينتمي إلى «داعش» ولا إلى «القاعدة»، ولا إلى غيرهما. ولكنه في الحالتين، حالة الانتماء لتنظيم أو عدم الانتماء، كان يتصرّف من تلقاء نفسه، ويعمل لحسابه، وكان يتحرّك من رأسه، ولا يحركه أحد خارج نطاقه هو؛ ولذلك شاع عنه أنه ذئب وأنه منفرد.
في الحالتين كان الذئب المنفرد يُمارس العنف لأنه يؤمن بينه وبين نفسه بأن عليه أن يمارسه، وبغير أي تحريض ولا توجيه ولا إيحاء من جانب أي جهة أو أي تنظيم. كان هذا يتضح بعد كل عملية يرتكبها ذئب منفرد من هذا النوع، وكان وجه الخطر في مثل هذه العمليات أن كشفها مسبقاً شبه مستحيل، بل هو المستحيل نفسه.
وحين أَقدَم المواطن الأردني ماهر الجازي، على قتل ثلاثة إسرائيليين بالقرب من جسر الملك حسين، فلا بد أن العالم الذي اعتاد متابعة الذئاب المنفردة المتجوّلة في مرات سابقة، قد راح يتابع حادث الجسر ولسان حاله يقول: ضمير منفرد هذه المرة لا ذئب منفرد.
لقد قيل الكثير عن الجازي بعد مصرعه في موقع الحادث؛ قيل إنه ينتمي إلى عشيرة الحويطات الأردنية، وقيل إنها صاحبة بطولات في تاريخها، وقيل إن فيها كذا وكذا من الأسماء ذات التاريخ، ولكن أحداً لم يذكر شيئاً عن أن ماهر الجازي حصل على تكليف من أي شخص أو جهة للقيام بعمليته. فهو قد بادر إلى تنفيذ العملية عند الجسر الواصل بين الضفة الغربية والأردن من تلقاء نفسه، وهو قد فكَّر في القيام بها بينه وبين ذاته، وإذا كان هناك شيء قد حرّضه أو شجّعه أو أغراه بما أقدم عليه، فهذا الشيء هو ضميره الحي أو هكذا نتخيّل.
هذا مواطن بقي يتابع المقتلة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة على مدى ما يقرب من السنة، وعاش يتمنّى بينه وبين نفسه لو ينصف العالم هؤلاء الذين يواجهون الموت في قطاع غزة طوال 11 شهراً كاملة، ولكن ما تمنّاه ذهب مع الرياح في كل مرة، وبقي العُزّل في القطاع يموتون من الجوع إن لم يموتوا برصاص المحتل.
هذا المواطن الجازي لم يحتمل ما يراه ويتابعه، ولم يحتمل عجز العالم أكثر، فتصرّف بإيحاء من ضميره وحده، وقرر أن ينتصر لأبناء القطاع على طريقته، حتى ولو كانت الطريقة التي اختارها تنطوي على عنف يجر وراءه عنفاً بالضرورة، وحتى ولو كانت حياته شخصياً سوف تكون هي الثمن المدفوع لما قرر أن يبادر به، وحتى ولو كان ما أقدم عليه لن يوقف المقتلة الجماعية في الغالب الأعم. هذا كله لم يمنعه من المُضي فيما عزم عليه، فكل ما كان يشغله أن ضميره يؤلمه، وكل ما كان يؤرقه أنه لا يصح أن يقف متفرجاً كالعالم من حوله.
طبعاً هذا الكلام ليس تحريضاً على عنف، ولا هو إقرار بأن العنف هو الحل، ولكن ما العمل في المقابل أمام أي مواطن عربي، أو أمام أي إنسان في العموم، يرى آلة القتل لا تستثني أحداً في غزة، ولا حتى في الضفة إذا لزم الأمر؟
هذا ضمير منفرد، تحرّك صاحبه بوحي من مسؤولية أحسّ بها في أعماقه، أو هو ضمير منفرد أوحى إلى صاحبه بأن ما تشهده غزة طوال السنة لا يرضى به دين، ولا تُقره سماء، ولا يمرره قانون، ولا تسكت عنه الفطرة التي خُلق الإنسان عليها. إن الذئب المنفرد يقتل بلا مبرر وبلا تفرقة بين ظالم ومظلوم، أو بين بريء ومدان، ولكن الضمير المنفرد في حالة جسر الملك حسين كان يُحرك صاحبه عن وعي بأنه أمام قاتل يعيش على القتل، وكان يتحرك عن وعي كذلك بأن هؤلاء الذين زاد عددهم على الأربعين ألفاً من الضحايا في غزة لم يقتلوا إسرائيلياً، ولا رمى أحد منهم طوبة في حياته على معسكرات المحتل.
عملية جسر الملك حسين ردّ فعل على فعل يتمادى، وإذا استغربها صاحب الفعل فلأنه يتعامى عن تداعيات ما يرتكبه.