مرّت قبل ايّام الذكرى السنويّة الخامسة لتوقيع الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني بين ايران من جهة ومجموعة الخمسة زائدا واحدا من جهة أخرى، أي البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن وألمانيا. في الواقع، كان الاتفاق اميركيا – إيرانيا. كان كافيا خروج الولايات المتّحدة منه حتّى يتحوّل الى مجرّد حبر على ورق.
كان التوصّل الى الاتفاق مناورة إيرانية في غاية الذكاء والدهاء. لعب نجاح هذه المناورة، القائمة على الابتزاز، دورا كبيرا في توفير انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني الذي كان استعاد حيويته في العام 2003 بعد تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة الى "الجمهورية الإسلامية" التي اسّسها آية الله الخميني. واجه هذا المشروع الايراني صعوبات معيّنة في مرحلة معيّنة قبل ان يأتي باراك أوباما، الذي يفرّق بين الإرهاب السنّي والإرهاب الشيعي، ليوفّر له المال الذي كان في امسّ الحاجة اليه.
مزّق الرئيس دونالد ترامب الاتفاق في ايّار – مايو من العام 2018، مؤكّدا بذلك ان الولايات المتحدة قرّرت الابتعاد نهائيا عن سياسة التهدئة مع ايران، وهي سياسة اعتمدها باراك أوباما في السنوات الثماني التي مكث فيها في البيت الأبيض. سمحت تلك السياسة لإيران بالاستفادة الى ابعد حدود من ملفّها النووي، خصوصا بعدما توصّلت الى اتفاق كشف مقدار السذاجة التي يتمتّع بها وزير الخارجية الأميركي، وقتذاك، جون كيري.
كان لافتا انّ أوباما الذي ادار اذنه الى معجبين بايران، من بينهم مستشارته وصديقة العائلة فاليري جاريت، اعتبر الاتفاق النووي بمثابة هدف بحدّ ذاته. اختزل به كلّ مشاكل المنطقة، من المحيط، الى الخليج. الاكيد انّه لم يكن بسذاجة وزير خارجيته، بل كانا عقائديا. جعله ذلك لا يرى سوى بعين واحدة، يرى الإرهاب السنّي فقط على سبيل المثال.
دفع العرب عموما، بمن في ذلك الشعب السوري، ولبنان طبعا، ثمنا غاليا لتملّق أوباما لإيران. يبقى اهمّ دليل على ذلك غض الطرف عن استخدام بشّار الأسد للسلاح الكيميائي في المواجهة بينه وبين الشعب السوري في آب – أغسطس 2013. انقذ أوباما رئيس النظام السوري من السقوط عندما تراجع عن كلامه التحذيري الذي يقول فيه ان لجوء بشّار الى السلاح الكيميائي "خط احمر". فجأة، ومن اجل سواد عيني ايران، وكي لا تخرج من المفاوضات السرّية مع الديبلوماسيين الاميركيين في سلطنة عُمان، لم يعد أوباما يرى اللون الأحمر. قتل النظام السوري من قتل من المعارضين السوريين الذين كانوا على أبواب دمشق وذلك من دون عقاب من ايّ نوع.
يمكن ان تكون هناك مآخذ كثيرة على سياسات دونالد ترامب، لكنّ الإجراءات التي اتخذها في حقّ ايران تبرّر له كلّ خطاياه وتجعلها مغفورة. لم يكتف بتمزيق الاتفاق النووي. القى قبل ذلك خطابا كشف فيه انّه يعرف تماما، او انّ هناك بين المحيطين به من يعرف، ما هي طبيعة النظام الإيراني القائم منذ العام 1979. تطرّق الى احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين في طهران 444 يوما منذ تشرين الثاني – نوفمبر 1979، وحتّى ما بعد انتخاب رونالد ريغان رئيسا خلفا لجيمي كارتر. لم ينس ضحايا تفجير مقرّ المارينز قرب مطار بيروت في العام 1983 ولا ايّ عمل عدائي للولايات المتحدة كانت خلفه ايران بطريقة او باخرى.
كان النظام في ايران يعتقد في كلّ وقت انّ في استطاعته عقد صفقة تصب لمصلحته، بغض النظر عن الرئيس الموجود في البيت الأبيض. بلغت ذروة النفوذ الأميركي في واشنطن في عهد باراك أوباما الذي كرّر خطأ جورج بوش الابن وأعاد تسليم العراق مجددا الى ايران والى رجلها في بغداد نوري المالكي عندما قرّر الانسحاب عسكريا في العام 2011.
على العكس من اسلافه، لم يحترم دونالد ترامب الخطوط الحمر التي وضعتها ايران لاميركا. شكّل اغتيال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني، لدى مغادرته مطار بغداد منعطفا. كانت الرسالة واضحة كلّ الوضح: لا وجود لخطوط حمر إيرانية، على اميركا اخذها في الاعتبار واحترامها. هناك اميركا أخرى غير اميركا التي اعتادت ايران التعاطي معها. هناك اميركا التي تفرض عقوبات على "الجمهورية الاسلامية" وادواتها في المنطقة من دون تردّد، هناك اميركا التي تمنع ايران من بيع نفطها. من دون النفط لا اقتصاد إيرانيا. هناك ايضا اميركا التي تقرّ "قانون قيصر" الذي سيقضي على النظام السوري ويمسّ كل من يتعاطى معه من قريب او بعيد، بما في ذلك الشركات الصينية والروسية.
على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عن صفقات من تحت الطاولة تجري هذه الايّام بين طهران وواشنطن، وهي صفقات تشمل تبادلا لسجناء، شملت بين ما شملته لبنان، يتبيّن يوما بعد يوم ان موضوع ذهاب اميركا بعيدا في المواجهة مع ايران مطروح جدّيا. انّه مطروح جدّيا، خصوصا في حال ردّ "الجمهورية الإسلامية" على الموقف الأميركي من الاتفاق النووي بالسعي الى امتلاك السلاح النووي والاحتماء في الوقت ذاته بالصين.
ما يثير الانتباه انّ بوادر الرغبة في رفض الرضوخ لإيران ظهرت في الأشهر الأخيرة من عهد باراك أوباما. تسرّبت في تلك المرحلة معلومات عن اعتراضات في المؤسسة العسكرية والأمنية على بعض التصرفات المتعلّقة بموقف الإدارة من ايران وسلوكها.
ما بدر عن إدارة ترامب ليس مرتبطا بإرادة رجل واحد بمقدار ما انّه تعبير عن شعور عميق في المؤسسة العسكرية والأمنية الاميركية كان ينتظر لحظة مثل لحظة اغتيال قاسم سليماني ليعبّر عن نفسه بوضوح اكثر.
بقي ترامب رئيسا ام لم يبق. حلّ مكانه الديموقراطي جو بايدن، الذي كان نائبا لاوباما ام لا... تظلّ السنوات الأربع التي أمضاها في البيت الأبيض بمثابة نقطة تحوّل على صعيد العلاقة بين طهران وواشنطن.
لا يمكن تجاهل ان ايران ما زالت تمتلك مجموعة تدافع بشراسة عن مصالحها في العاصمة الأميركية. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أيضا ان تغييرا في العمق طرأ على تفكير المؤسسة العسكرية الأميركية ونهجها. يرتبط هذا التفكير بوجود من يعرف جيّدا، في داخل المؤسسة، ما هي ايران وما هي المخاطر التي ستترتب على امتلاكها للسلاح النووي في يوم من الايّام.