الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا

الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا

الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا

 صوت الإمارات -

الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا

بقلم: مصطفي الفقي

أشعر أننى غريب فى هذا العالم الذى يموج بتياراتٍ جديدة وأفكار حديثة واكتشافاتٍ مبهرة وتحولات ضخمة فى الفكر والعلم معًا، وعندما أرى أحفادى يتداولون الصيغ الأخيرة للأجهزة الحديثة أشعر وكأننى قد هبطت عليهم من عالم قديم لا يعى من أمر ما يفعلون شيئًا، إننا فى عصرٍ لا يتعلم فيه الأحفاد من الأجداد ولكن يتعلم الأجداد من أحفادهم! وقد يكون ذلك على المستوى العلمى، ولكن الأمر يختلف كثيرًا فى الجانب الفكرى، فالبناء الحضارى الضخم فى الشرق والغرب على السواء يجعل الرؤية واضحةً فى جانبها الفكرى، ولكنها غريبة فى تطورها العلمى، ولقد حرصت منذ بداية الثورة الإلكترونية على تجنبها قدر الإمكان لأننى أنتمى إلى جيل به نماذج كثيرة للتعامل المحدود مع التطورات الوافدة، وأنا نموذج صارخ لذلك، فأنا لا أجيد ركوب الدراجة وإن كنت أحسن قيادة السيارة، ولا أتعامل مع الآلة الكاتبة منذ مطلع شبابى علاوة على أننى لا أجيد السباحة، وأبدو بالفعل عالة على العصر الذى نعيش فيه، يقابل ذلك طاقة هائلة على التأمل وقسط وافر من المعرفة ونهم شديد للفكر الجديد، فمازلت أكتب مقالتى بالإملاء على سكرتارية مكتبى ولا أتعامل مع الأجهزة الحديثة إلا فيما ندر، فعلاقتى بالتليفون المحمول تتوقف عند إرسال مكالمة أو استقبال أخرى أو قراءة رسالة وافدة دون القدرة على الرد عليها كتابة، وقد كنت شديد الحرص على ألا أزج بنفسى فى ذلك العالم الجديد الذى لم يكتب لى فيه التفوق مهما حاولت، فالزمان غير الزمان والعصر غير الأوان والدنيا تمضى فى اتجاهات لا يمكننا التحكم فيها، إننى من جيل ينتمى إلى تكنولوجيا جدول الضرب والجمع والطرح والقسمة، جيل عايش خيال الشعراء وأحلام السفراء وأوغل بعيدًا فى الدراسات الفلسفية والتأملات الوجودية فأصبح عصيًا عليه أن يبدأ الطريق مرة أخرى من بدايته أو أن يسعى فيه بأسلوب مختلف، ولا أقول إن ما أتحدث عنه هو نموذج يحمد لصاحبه، ولكنى أقر بالحقائق فقد عاهدت نفسى على الصدق حتى لو دفعت جزءًا من ثمنه، فلا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا ما ينفع الناس، ولقد كنت أتساءل دون أن أقوم بعملية جلد للذات أو تأنيب للضمير إذا كنت أستطيع أن أحقق بطرق بسيطة ما يصل إليه الناس بأساليب معقدة، لذلك حرصت على أن تكون كلماتى واضحة وعباراتى أمينة وشرحى للأمور لا يتجاوز الحدود التى عشت بها ولها، وكنت أسأل نفسى دائمًا ومازلت عن متوسط العمر الافتراضى للإنسان المعاصر وكيف أنه يتأرجح حول أرقام محددة لا يتجاوزها إلا نادرًا، وأقوم بعملية حسابية بسيطة تشير إلى أن ما تبقى هو أقل بكثير من ربع ما مضى، فلماذا اللهاث وراء الأيام القادمة والسنوات الباقية؟ ولكننى أعرف على الجانب الآخر زملاء لى من ذات الجيل اخترقوا الحجب ومضوا فى نهمِ شديد نحو المعرفة العصرية والاكتشافات الحديثة وضربوا فيها بسهم وافر وحققوا إنجازات كبيرة، فقد عرفت بعض أصدقائى ممن يكتبون كل مقالاتهم بأصابعهم على جهاز الكمبيوتر أو أحد المخترعات الحديثة التى تترجم الصوت إلى حروف وتستنطق الحروف الصماء لتجعل منها عبارات ذكية واضحة، إننى أقول كل ذلك لأننى أشعر بقدرٍ كبير من الفجوة بينى وبين الأجيال التى تمضى أمامى وأتحمس كثيرًا للحوار اللفظى بدلاً من التعامل الصامت أمام الجهاز الصغير الذى أصبح يفرض علينا كل ضغوط التبعية الكاملة والاستسلام الذى لا يتوقف عند حد معين. إننى لا أهوى «الأذان فى مالطا» ولا أترك نفسى لحسابات الزمن المفتوح بل إننى مؤمن تمامًا بأن كل قرارٍ منسوب لعصره وكل موقفٍ محسوب على أوانه، ولا نستطيع أن نفكر بدرجة من السيولة فى المطلق كما لا نستطيع أن نطرق أبواب الزمن القادم دون مفاتيح ثابتة تقوم على قواعد حسابية صحيحة وتنبؤات فكرية حاسمة، إننى أنعى فى الوقت نفسه من فاتتهم الفرصة وأطلب منهم ألا يسمحوا بتكرار ذلك لمن يعرفون لأن الندم السلبى حينها هو الذى سوف يسود وليس الندم الإيجابى بعمقه المعهود.

نقلاً عن "الأهرام"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا الغربة بين الحضارة والتكنولوجيا



GMT 04:32 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

لحظة تأمل

GMT 04:32 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

حرب الجنرال الغائب

GMT 04:30 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

كِتاب غزة

GMT 04:29 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

الحرب الثالثة ماذا بعدُ؟

GMT 04:29 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

«أوديب».. وقد غادر الطائرة

GMT 04:25 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

وزراء كانوا هنا

GMT 04:24 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

القرار الخاطئ

GMT 04:59 2024 الثلاثاء ,24 أيلول / سبتمبر

علاقة مفاجئة بين شرب القهوة وبناء العضلات
 صوت الإمارات - علاقة مفاجئة بين شرب القهوة وبناء العضلات

GMT 15:23 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

تغير المناخ المستمر يشكل خطرًا على التوازن البيئي للطيور

GMT 17:51 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على أشهر المطاعم العربية الحلال في جنيف

GMT 18:46 2013 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

"سوني" تطرح بلاي ستيشن 4 في عدد من الدول

GMT 13:10 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

انطلاق المؤتمر الدولي للحد من الزئبق

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,01 شباط / فبراير

أفكار بسيطة لتجديد المنزل بأقل التكاليف الممكنة

GMT 23:13 2016 الإثنين ,18 إبريل / نيسان

الإضاءة الداخلية عنوان في هوية المكان

GMT 20:50 2013 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

إنفاق 237 مليار دولار سنويًا لدعم الطاقة في الشرق الأوسط

GMT 05:53 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

إسطنبول مدينة رائعة تحضن كل الأمزجة التي تنبض بالحياة

GMT 09:41 2016 الأحد ,21 شباط / فبراير

بحث مشاريع الطاقة بين الأردن ومصر والعراق

GMT 19:07 2019 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

وفاة بطلة فيلم "لوليتا"

GMT 03:55 2019 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

إشادة كبيرة من الجمهور المشارك في حفل "الماسة كابيتال".

GMT 01:26 2019 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير تشيز كيك التفاح بطريقة سهلة وبسيطة

GMT 10:14 2019 الخميس ,06 حزيران / يونيو

إخراج عنكبوت صغير مِن أعماق أذن امرأة فيتنامية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates