قال الكاتب البريطانى العظيم «جورج برنارد شو»: «إن الانتخابات تأتى أحياناً برجال مسئولين يختارهم ويضعهم فى مناصبهم حمير»!
عبارة قاسية للغاية، وتحتمل وجهات نظر عديدة، وكانت مثار جدل عظيم حينما أطلقها «برنارد شو» فى زمانه.
و«برنارد شو» هو أهم كاتب فى التاريخ البريطانى عقب وليام شكسبير. ولد عام 1856 وتوفى 1950، وهو كاتب مسرحى وناقد وناشط سياسى وأحد أهم نشطاء حزب العمال وهو أحد مؤسسى حكم «الاشتراكية الفابية».
الآن، يعود تدوير هذه العبارة القاسية فى بريطانيا بعد حالة الفوضى السياسية التى تعيشها البلاد والعباد عقب نتيجة الاستفتاء الذى اختار فيه الشعب البريطانى الانفصال عن عضوية الاتحاد الأوروبى والذى عرف باسم «اتفاق البريكست».
ويرى المراقب المحايد أن موضوع ملف البريكست فيه 3 أخطاء تاريخية:
الأول: هو الخطأ الجوهرى القائم على مبدأ احتياج البلاد إلى استفتاء من أساسه، وهذا الخطأ التاريخى سوف يتحمله دائماً ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا السابق الذى لم يكن فى أى احتياج للدعوة لاستفتاء شعبى حول هذا الموضوع، والذى كان يتوقع أن تأتى النتيجة مخالفة تماماً لما حدث وهو رفض البقاء، فجاءت «الريح بما لا تشتهى السفن».
الثانى: شكل مسودة الاتفاق الذى تم بمقتضاه ترتيب عملية الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، فهى -حتى تاريخه- لا تحوز الحد الأدنى من رضا البرلمان البريطانى والبرلمان الأوروبى على حد سواء.
الثالث: تركيبة عضوية حزب المحافظين الحاكم المفكك والمضطرب والمنقسم داخلياً حول رئاسة السيدة «تريزا ماى» للحكومة وحول البريكست.
وخرج أمس نحو مليون بريطانى فى شوارع لندن وفى عدة مدن بريطانية يطالبون بإجراء استفتاء ثانٍ حول موضوع البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبى.
كانت هذه التظاهرة من التيار المتنامى الذى يزداد يوماً بعد يوم مطالباً بالرجوع عن قرار الخروج والتصويت بقوة على ضرورة التمسك بالبقاء.
وهكذا أصبحت بريطانيا تعيش واحدة من أعقد المعضلات التاريخية فى تاريخها المعاصر وهذه المعضلة تحتوى على الأركان التالية:
1 - تيار يريد تنفيذ الخروج الكامل دون وجود أى شروط لطريقة التخارج.
2 - تيار آخر يريد «الخروج المنظم» باتفاق مشترك بريطانى مع دول الاتحاد الأوروبى يعتمد على المادة 50 فى الاتفاق ينظم هذا الخروج بما يحقق التوازن بين مصالح الطرفين ويحجم الأضرار الناتجة عن هذا الأمر.
3- تيار ثالث يؤيد البقاء فى الاتحاد الأوروبى وضرورة إعادة إجراء استفتاء جديد، يؤكد على هذا الأمر، على أساس أن الاستفتاء القديم لم يجر على «إطلاع كامل وصادق من الساسة لقاعدة المصوتين على بنوده».
وأخيراً، هناك تيار رابع أخير، يمثل قطاعاً كبيراً من الاتجاهات الشعبوية والعدمية التى لا تجد أى حل فى الخروج أو البقاء باتفاق أو بدون اتفاق، باستفتاء أو بدونه!
ذلك كله يجعل بريطانيا، التى تعتبر «أم الديمقراطيات» فى التاريخ المعاصر، فى حالة صراع مع اختياراتها الشعبية التى قامت على شرعية قانونية وآلية سياسية معتبرة وهى آلية الاستفتاء الشعبى.
ذلك كله يجعل عبارة جورج برنارد شو القاسية تطرح السؤال الصعب حول جدوى الثقة فى اختيارات الناس.
على خلاف برنارد شو، كان رئيس الوزراء البريطانى العظيم ونستون تشرشل دائم القول: «إن النظام الديمقراطى فى الاختيار هو سيئ ومؤلم، لكننا لم نخترع بعد أسلوباً أفضل منه».
وما بين برنارد شو وتشرشل يعود التاريخ ويكرر جدل «جدوى وفعالية النظام الديمقراطى».
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الوطن