بقلم - عماد الدين أديب
هل تريد أن تتعرف على «نموذج مثالى» للعسكرية المصرية الحديثة قيمة، وخُلقاً، وعلماً، وكفاءة، وانضباطاً؟ انظر بعمق إلى سيرة الفريق محمد العصار، رحمه الله.رحل عنا «الجنرال» متكامل الصفات، أحد أبطال المؤسسة العسكرية الوطنية، منذ ساعات بعد رحلة عطاء كلها عمل وطنى، وعشق لمصر، وكفاءة نادرة.خدم «العصار» فى حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر، وحرب تحرير الكويت، وإعادة تطوير تسليح الجيش المصرى لمدة ربع قرن، كان له دور رئيسى فى أحداث يناير 2011 وثورة 30 يونيو 2013.ما أكثر جنرالات الجيش فى العالم، ولكن محمد العصار لم يكن كغيره، إنه حالة خاصة جداً يندر أن تجتمع فى شخص واحد.ما أقوله ليس مجرد انطباع عن بُعد أو متابعة مراقب للأحداث، لكنه خلاصة علاقة إنسانية ومهنية وثيقة عمرها أكثر من ربع قرن.عاصرته فى الأيام الصعبة التى تلت 25 يناير 2011، وكيف كان يتعامل فى الداخل والخارج بحرفية وثبات.كانوا يسمونه فى برقيات السفارات «الجنرال المتمكن الهادئ»، وكان رموز يناير 2011 يسمونه «مايسترو الأزمات».كان شباب الميادين يذهبون إليه وسط الاحتجاجات الشعبية وكلهم غضب وتوتر وشكوك ومخاوف من كل ما هو سلطوى، وبعد أول حوار مع «المايسترو» يخرجون من الاجتماع بشعور عامر بالثقة والفهم والتفاؤل من الرجل، والمؤسسة التى يعبّر عنها.كان «الجنرال الهادئ» خير مستمع لمحدثيه، يتلاشى طوعياً، ويجعل من صاحب المشكلة البطل الأول، وبعد إنصات عميق، وفهم علمى، ودراسة كاملة، يأتى بالحل النهائى فى قرارات عملية، وعبارات قصيرة بتجرّد كامل.تشرفت بأن استضفته مع صديق عمرى وزميله فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفريق محمود حجازى فى حلقة واحدة على الهواء مباشرة قبيل ثورة يونيو 2013 بـ70 يوماً بالضبط.فى هذه الحلقة، الموجودة الآن على «اليوتيوب»، أوضح الجنرال الصامت وزميله الجنرال النبيل بما لا يدع مجالاً للشك، هكذا علناً، جهاراً، نهاراً، أن «جيش مصر لن يقف مكتوف الأيدى أمام هموم الشعب، وأنه لا ينحاز، ولن ينحاز إلا للشعب وحده دون سواه». قيل ذلك والإخوان فى الحكم يمسكون بمفاصل الدولة.حينما انتهت الحلقة، تأكدت أن الجيش وسلطة حكم الإخوان مقبلان على صدام حتمى، وأن مصر على حافة خطر عظيم.وبينما كنت أقوم بتوديع الجنرال الصامت والجنرال النبيل، قال «العصار»: «أرجو أن تكون رسالتنا قد وصلت للجميع دون أى تشويش أو التباس».سألته: «بس يا فندم إحنا كده داخلين على صدام وخطر؟».رد «العصار»: جيش مصر جيش وطنى، جيش الشعب.وهنا تدخل محمود حجازى: «وعمر الجيش ده ما كان جيش سلطة».كان «العصار» رجلاً شديد الانضباط فى عسكريته، مثالياً فى أخلاقياته، دقيقاً فى عمله، حريصاً فى كلماته، صارماً فى قراراته، كفؤاً فى إدارته، علمياً فى عمله.حينما كنت أزوره بشكل دائم فى مكتبه بوزارة الإنتاج الحربى، منذ سبتمبر عام 2015، كان يملؤه التفاؤل بمستقبل مصر فى ظل حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى.كان «العصار» يعشق «السيسى» إنسانياً، ويعتبره، منذ أن زامله فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بلغة العسكرية القريبة، بأنه ذلك «الجنرال الذهبى المتميز فى جيله الذى يستطيع أن يقود المرحلة بمزيج من الطاقة اللانهائية والانضباط الصارم، والكفاءة والعلم».رغم أن هناك جيلين من العمر يفصلان فى سنوات التخرج والأقدمية بين الفريق العصار والرئيس السيسى، فإنه كلما تحدث عنه معى، وكنا وحدنا، فى غرفة مغلقة بلا كاميرات تليفزيون، كان يسبق اسمه بـ«سيادة الرئيس السيسى».كان «العصار» يؤمن بالانضباط العسكرى واحترام القائد عملاً بمبدأ «احترام التراتبية فى السلطة والمسئولية ويبقى القائد هو القائد».وأتاحت لى الظروف أن أرى كيف كان الإنسان عبدالفتاح السيسى يتعامل بلياقة ومحبة واحترام مع «العصار» بنفس الأسلوب دون تغيير وهو رئيس للمخابرات الحربية، وهو وزير للدفاع، وهو رئيس للجمهورية: «المعاملة القائمة على المحبة والاحترام والتقدير لمكانة الرجل لم تتغير»، بصرف النظر عن المواقع والمناصب.أمسك «العصار» بملفات شديدة الدقة والصعوبة لم يحن الوقت للكشف عن تفاصيلها مثل:1- علاقات التسليح مع الولايات المتحدة.2- الحوار الاستراتيجى بين مصر والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين.3- قناة الحوار المعتمدة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع جميع القوى والأحزاب والتيارات الفاعلة أثناء وبعد ثورة يناير.4- كان له دور أساسى فى خلية الأزمة الداخلية لإدارة مسألة علاقة الجيش مع حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى.5- عمليات تحديث أنظمة التسليح وتنويع مصادر السلاح التى أدارها واعتمدها الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ اليوم الأول الذى تولى فيه حقيبة وزارة الدفاع.فى تلك الفترة فُتحت كل مخازن السلاح فى مصر على مصراعيها، وتم إنجاز أكبر عدد من المناورات العسكرية للجيش المصرى براً وبحراً وجواً، وبدأت سلسلة من المناورات للأسلحة المشتركة بالذخيرة الحية.6- حدث تطور نوعى غير مسبوق فى أداء وإنتاج شركات ومصانع وزارة الإنتاج الحربى، بحيث تطورت النوعية العسكرية، ودخلت فى مجالات التصنيع المدنى التى تخدم المجتمع وتوفر استيراد بضائع وصناعات أجنبية، واستطاع «العصار» أن يفتح أسواقاً جديدة لتصدير منتجات الوزارة فى العالم العربى وأفريقيا، وأن يجعل من المنتج العسكرى المصرى مصدر ثقة ومنافساً حقيقياً فى أسواق الصناعات العسكرية.7- هناك جانب يصعب الخوض فيه استطاع فيه هذا الرجل بواسطة عقول كبار الباحثين والمطورين العسكريين أن يرفعوا من حالة التسليح المتوافر لجيش مصر.فى عهده أنتجت المصانع والشركات التابعة لوزارة الإنتاج الحربى أفضل الصناعات المدنية، آخرها تجهيزات المنظومة الصحية لمواجهة فيروس كورونا.كان حلم الفريق العصار، كما سمعته منه مراراً وتكراراً، أن يخلق قاعدة تصنيع عسكرى قوية تجعل من إنتاجها مورداً استراتيجياً ومصدراً أساسياً للدخل.فى هذا المجال كان يقول: «انظر إلى مداخيل مبيعات السلاح لدى البنتاجون الأمريكى، أو هيئة السلاح الروسية، أو مبيعات الصين أو كوريا الشمالية أو تأثير مبيعات السلاح على كبريات الشركات العامة فى بريطانيا وفرنسا».كان «العصار» سعيداً حينما اطلع على مشروع 2030 للإصلاح فى السعودية، وكان يرى أن توطين صناعة السلاح فى داخل السعودية سوف يكون مصدراً أساسياً من مصادر الدخل بحلول 2030.كان الفهم العميق لـ«العصار» للأوضاع الداخلية فى مصر، والوضع الإقليمى فى المنطقة، وطبيعة العلاقات الدولية أعمق من خبرات أعظم الباحثين السياسيين.إن عقلية الضابط، خريج الكلية الفنية العسكرية، الحاصل على الماجستير والدكتوراه فى الهندسة الكهربائية، هى تلك العقلية العميقة العلمية القائمة على القواعد التقنية والمنطق العلمى، والتفاصيل الفنية الدقيقة.عقل منظم، قلب نابض بالحب للناس، عاشق لتراب الوطن، معطاء لتلاميذه، شديد الاحترام لقادته، ذو عقلية متفتحة يؤمن بالحوار والتفاهم.رحل الأخ الأكبر، الصديق الحبيب الفريق العصار، الذى منحه الرئيس السيسى رتبة الفريق الفخرية قاصداً أن يكرمه فى حياته قبيل وفاته بأيام معدودات.واليوم، تدخل العسكرية المصرية فصلاً جديداً من عمليات البناء والتنمية فى الداخل، والدفاع عن مياه النيل، وحماية الحدود من سيناء إلى ليبيا وهى متسلحة بنماذج قدوة وطنية مثل الفريق العصار.رحم الله الرجل، وتعازينا لأهله، ورفاقه وتلامذته، وإلى الرئيس السيسى الذى أحب واحترم الرجل حتى آخر دقيقة وكرّمه وأكرمه قبيل رحيله.