بقلم - عماد الدين أديب
فى زمن الماديات يصبح الحب بكل أشكاله عملة نادرة، فلا نعرف كيف نحب أنفسنا ولا غيرنا، ولا وظيفتنا ولا مبادئنا ولا عائلتنا ولا أوطاننا ولا إنسانيتنا!ببساطة نحن لا نعرف الحب، وإذا عرفناه لا نعرف كيف نعبر عنه، وإذا عبرنا عنه أخطأنا الكلمات، والعبارات، والوسائل!جاءت قصة رحيل الفنانة الإنسانة الوفية رجاء الجداوى لتدق عقولنا وقلوبنا وضمائرنا لتطرح من جديد هذا الملف الجوهرى فى تكوين إنسانية الإنسان.وكل من شاهد حلقة الزميل الأستاذ عمرو أديب مساء الأحد التى خصصها بأكملها لاستقبال «شحنات لا نهائية» من المشاعر الإنسانية الساخنة حول «وجع القلب» لرحيل السيدة رجاء الجداوى، سوف يعرف بالضبط معنى «الحب الحقيقى» و«ألم فقدان من نحب».أمثال السيدة «رجاء» عاشوا، ويعيشون وسطنا فى حياتنا، فى بيوتنا، كأصدقاء، أحباب، أقارب، زملاء عمل، رفاق درب، لكننا لا نعرف حقيقة قيمتهم إلا عند فقدانهم ورحيلهم.هنا يبرز السؤال الجوهرى: لماذا لا نعرف قيمتهم وهم معنا؟ ولماذا لا نعطيهم حقهم من العطاء وهم أحياء؟هذا الأمر ينطبق على علاقتنا بالأوطان.نحن نتعامل مع الوطن على أنه تحصيل حاصل، وكأنها علاقة من طرف واحد بمعنى أن نجلس على مقعد السلبية الكاملة، والشكاوى الدائمة من تقصير الأوطان، بينما لا نحرك أصبعاً واحداً لإنقاذ البلاد والعباد مما هى فيه من تحديات ومخاطر وضغوط واحتياجات ملحة!لذلك يصبح الحب -دائماً- هو الفريضة الغائبة التى يتعين علينا أن نمارسها.لا حب بدون عطاء، ولا عطاء بدون إيمان بمن نحب، ولا إيمان بلا صدق، ولا صدق بدون حسابات مادية.العطاء الصادق لحبيب، لصديق، لقضية، لمبدأ، لوطن، للإنسانية، يجب ألا يخضع لأى حسابات من أى نوع.لذلك يمكن أن نفهم مظاهرة الحب الصادق والتقدير المتباهى من زملاء وزميلات السيدة رجاء، كما ظهر فى حلقة الأستاذ عمرو أديب.حينما يتحول ضميرك الإنسانى إلى آلة حاسبة، وتحل الأرقام محل مشاعرك، وحينما يكون مبدأ الربح والخسارة يتحول الإنسان من كونه تركيبة عبقرية من جسد وروح وضمير ومشاعر إلى أرقام وحسابات مجردة يتحول من إنسان إلى جهاز «روبوت» منزوع الإنسانية.كان الشاعر المبدع بدر شاكر السياب دائم الترديد لمقطع عبقرى فى إحدى قصائده، يقول فيه:إن فقد الإنسان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟لذلك لا يكفى أن تحب، ولكن يجب أن تعرف كيف تحب، وكيف تترجم مشاعرك هذه إلى سلوك ومواقف سواء كان فرداً، أو قيمة أو مبدأ، أو وطناً فأنت لا تفعل ذلك إكراماً للآخر، ولكن -بالدرجة الأولى- من أجل احترام نفسك، وتقدير حقيقى لكرامة مشاعرك.أطلق مشاعرك من معتقلات الخوف والتردد، توقف عن الاستبداد بكل ما يختلج فى نفسك.اشكر من ساندك، تلقف اليد التى تمتد إليك، اصفح عمن أساء إليك، تدارك كل من أخطأت فى حقه عن خطأ، لا تخلع عن نفسك وروحك رداء التسامح الإنسانى مهما كانت الأخطاء أو الخطايا.فى هذا المجال يقول جيمس إيرك جونز «من أصعب الأمور فى الدنيا وجود كلمات فى قلبك لا تستطيع النطق بها».الحياة قصيرة، أقصر مما يتخيل الإنسان، وأصعب ما فى مشروع الحياة أنك -بالتأكيد- تعرف متى ولدت لكنك -بالتأكيد- لا تعرف متى تموت.من هنا لا تؤجل مشاعر اليوم إلى الغد!من هنا قل لمن تحب، حقيقة مشاعرك تجاهه! عبر عن نفسك، حطم جسور الخجل، وحواجز الكرامة الزائفة، ومخاوف الإحباط أو خيبات الأمل.فى علاقتنا بالأوطان نكتب الأشعار ونصدح بالقصائد، ونغنى الأغنيات وننشد الأناشيد الوطنية، وفى الوقت ذاته نتخلى عن فقرائنا، ونتهرب من الخدمة العسكرية، وننهب المال العام، ونغش فى تجارتنا، ونتاجر فى السموم والممنوعات، ونستورد الأطعمة الفاسدة، ونشكك فى كل إنجاز، ونطعن فى الشرفاء، ونلوث الأعراض، ونستخدم وسائل التواصل الاجتماعى بأبشع الطرق والألفاظ، وتسمى الإرهاب جهاداً، وننعت الشرفاء بالعملاء، ونصنع من العملاء شهداء بغير حق.وننسى أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب: «حب الوطن فرض علىّ.. أفديه بروحى وعينيا».لدينا اختلالات كبرى فى مسألة «الحب» فى حياتنا:- الاختلال الأول: لا نعرف الحب كقيمة سامية.- الاختلال الثانى: لا نعرف كيفية التعبير عن الحب.- الاختلال الثالث: إذا عرفناه وعبرنا عن الحب لا نعرف كيف نمارسه.- الاختلال الرابع: إذا مارسناه أخطأنا الطريقة.إشاعة الحب بين الناس والأفكار والسلوكيات هى «المضاد الحيوى الأقوى» لفيروس الكراهية والشك والحقد فى عالم طغت فيه المادية المطلقة على المشاعر والإنسانيات والروحانيات.فى حلقة برنامج «الحكاية» التى خصصت كلها للتعبير عن فيضان المشاعر عن رحيل إنسانة نادرة تستحق أن يطلق عليها «إنسانة بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى» سمعت عبارة هزتنى، بل زلزلتنى كانت الفنانة رجاء الجداوى ترددها دائماً على مسامع الأستاذ عمرو أديب: «لما تحب حد، إديله كل حاجة».فعلاً، حينما تحب إياك إياك إياك أن تحسب حجم العطاء للمحبوب.قانون الحب لا يجب أن يتحول إلى كشف حساب بنكى له رصيد، وحدود، وحدود للسحب منه!الحب الحقيقى، بلغة المصارف، حساب «مفتوح» فيه حقوق السحب على المكشوف دائماً وأبداً.تداركوا خطأ التخلى عمن سبقنا، وعبروا بلا حساب عن مشاعركم الصادقة.مرة أخرى: «لما تحب حد إديله كل حاجة» سواء كان هذا الحبيب فرداً أو مبدأ أو وطناً.رحم الله رجاء الجداوى وعذراً لكل من رحل ولم يتح لنا أن نعطيه حقه فى عطاء المشاعر.