بقلم - عريب الرنتاوي
بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أشهر على تفشي "الجائحة"، ما زال البعض منّا، ولأسباب ودوافع مختلفة، يجادل بخطأ الإجراءات الوقائية والاحترازية التي اتخذتها الحكومة (اقرأ الدولة)، والتي تمثلت بإغلاق معظم القطاعات الاقتصادية وفرض الحظر والتباعد الاجتماعي، وتقنين حركة الأفراد والمركبات، وفصل المحافظات، وحظر الاجتماعات العامة، وإجراءات غيرها خبرها الأردنيون والأردنيات.
حسناً...لنتخيّل "السيناريو البديل" لذاك الذي اعتمدته الدولة منذ بواكير اندلاع الجائحة، تخيّلوا لو أن أي من هذه الإجراءات لم يتخذ، أو اتخذ على نطاق ضيق، وعاث المصابون مع المخالطين، ومخالطي المخالطين، ما الذي كان سيصبح عليه حالنا؟ ...كم كانت الإصابات لتبلغ، وأية أرقام ستسجلها "وفياتنا"؟ ...الأهم، ما الذي ستكون عليه ردود أفعال الأردنيين، وهو يرون طوابير المرضى أمام المستشفيات العاجزة عن استقبالهم، تماماً مثلما يحصل في دول أكثر منّا قدرة واقتداراً...تخيلوا لو أن الدولة اضطرت لفتح قبور جماعية، كما يحصل في دول أكثر غنى منّا، لدفن الضحايا، ما الذي كانت ستكون عليه ردود أفعالنا؟
بعضنا يسخر من وصف كورونا بـ"الجائحة"، أردنياً على الأقل...صحيح، هي لم تصبح جائحة بعد، وأرقامنا لم تتخط البضعة مئات من المصابين، وأقل من أصابع اليدين من الوفيات، لكن ذلك عائد بالأساس للإجراءات الوقائية الصعبة، التي ينتقدونها صبح مساء، والتي من دونها، كان يمكن لأرقامنا أن تجاري أو تناهز أرقام الدول المنكوبة بالفيروس...لا أتحدث عن الولايات المتحدة واسبانيا وروسيا وإيطاليا، بل عن جوارنا العربي، الذي قاربت أعداد إصاباته الخمسين ألفاً، وأرقام وفياتها في ارتفاع مضطرد.
الحكمة بأثر رجعي، لا تفيد أحداً، ولا تمنح مدّعيها أية ميزة إضافية...وحسابات الربح والخسائر، يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار كلفة كل "سيناريو" أو بديل...لقد فرحنا في بدايات الأزمة لقول وزير المالية بأن خسارة مواطن واحد، أهم وأغلى من أية خسائر أخرى...لكننا اليوم، وبعد أن تمت السيطرة على "الغُمّة"، نعمد إلى قراءة التجربة بأثر رجعي...من يريد أن يفهم ما نحن عليه الآن، عليه أن يتخيل ما كان يمكن أن نكون عليه، لو أن الحبل تُرك على الغارب.
لسنا في بازار انتخابي، وبعض الانتقادات والتعليقات التي تصدر عن سياسيين وحزبيين، تشعرك كما لو أنهم يخاطبون مهرجاناً انتخابياً، مع أن الحالة لا تحتمل المزايدات والمناقصات...بعضهم "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب" كما يقول المثل...من مأمنه في المنزل المُعقم، يطلق الانتقادات رشاً ودراكاً... فنادقنا قذرة، غرفها ليست نظيفة، المحجورون هناك يذوقون المر ويعاملون كالمجرمين، وذويهم يذرفون الدموع...أين أنتم يا قوم، قارنوا حالنا ليس بجوارنا القريب، بل بأحسن التجارب الدولية، وكونوا منصفين...لأول مرة نشعر أننا متفوقون بملف من الملفات، حتى على دول متقدمة، لا تنغصوا هذه الفرحة، ولا تخربوا على هذا الإنجاز...الحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى، ليست من طينة الملائكة، وانظروا بـ"عين الرضى" للغث والسمين في سياساتها وإجراءاتها، ونحمد الله أننا ما زالنا قادرين على "الوفاة بظروف طبيعية"، وليس بفعل الفايروس الحقير، الذي يعصف بخمسة ملايين مصاب مسجّل، وأضعاف أضعافهم من غير المسجلين.
في بواكير الأزمة، كتبت مطالباً بتشديد الإجراءات، مجادلاً بأن من الأفضل أن يقال "تسرعنا" على أن يقال "تأخرنا"، كان ذلك قبل دخول البلاد في حالة الطوارئ والاستثناء، واليوم نقول إننا لم نتسرع أبداً، وأن إجراءاتنا جاءت في أوانها، وها هي القطاعات تعود للعمل والإنتاج بتدرج متسارع، وها هي مظاهر الحياة الطبيعية تعود بحذر، فيما فرق التقصي الوبائي تنجح في احتواء الفيروس، وأرقامنا من الأقل في العالم بأسره.