لا تمتلك القمة العربية المنتظرة أواخر الشهر الجاري في عمان، سوى أن تعيد تأكيد المواقف العربية السابقة حيال القضية الفلسطينية، وبالذات ما تضمنته مبادرة قمة بيروت، عن “حل الدولتين” وقيام دولة فلسطينية مستقلة، قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية... أي محاولة للتساوق مع المواقف والاشتراطات الإسرائيلية الجديدة، ستكون ضرباً من المجازفة، وستندرج في سياق التنازلات المجالية “المهداة” إلى من لا يستحق.
التمسك بحل الدولتين، هو الإجراء الوقائي/الدفاعي العربي الذي يجب الاستمساك به، في مواجهة محاولات نتنياهو التنصل من أي التزام بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية ... حل الدولتين، بات مدرجاً في مختلف مرجعيات عمليات السلام وقرارات الشرعية الدولية، وأية محاولة لتجاوز هذه المرجعية، إلى مرجعيات ضبابية، سينهي على آخر أمل بإنهاء الاحتلال من دون أن يؤسس لأي أفق لحل الدولة الواحدة ثنائية القومية، القائمة على مفهوم “المواطنة المتساوية”.
لسنا من المؤمنين بأن حل الدولتين ما زال ينبض بالحياة، بل قلنا وكتبنا في هذه الزاوية أكثر من مرة، بأن هذا الحل مات وشبع موتاً، لكن الانتقال سياسياً من مرجعية محددة إلى مرجعية ضبابية (رمال متحركة)، سيوفر للترويكا الحاكمة في إسرائيل البضاعة التي تحتاجها، وسيعطيها المزيد من الوقت والتغطية للمضي في سياسة التوسع الاستيطاني المنفلت من كل عقال، وسيدخل الفلسطينيين في حيرة من أمرهم... لكن “الدولة الواحدة” التي يتحدث بها أقصى اليمين الإسرائيلي، هي دولة الضم والإلحاق والتمييز العنصري، وليس الدولة ثنائية القومية أو دولة “الصوت الواحد للناخب الواحد”، وهي على الرغم من طابعها العنصري – الاستعماري، إلا أنها لا تحظى بإجماع الإسرائيليين، بل وليست مقبولة من قبل غالبيتهم العظمى، ومشوار نضال الفلسطينيين في سبيل الدولة المستقلة، سيكون أقصر وأقل كلفة من مشوار النضال في سبيل الدولة الواحدة ثنائية القومية، دولة المواطنة المتساوية لجميع أبنائها وبناتها، عرباً ويهود.
قبل أيام أجرى مركز القدس للإعلام والاتصال استطلاعاً للرأي العام الفلسطيني، عبّرت من خلاله غالبية الفلسطينيين (حوالي 54 بالمائة) عن تشاؤم أكبر بفرص حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لكن مع ذلك، نسبة مؤيدي حل الدولتين قد ارتفعت مؤخراً، من 44 بالمائة إلى حوالي نصف الفلسطينيين ... الفلسطينيون، بمن فيهم المؤمنون بحل الدولة الواحدة، لا يرون شريكاً إسرائيلياً في هذا الحل، ويفضلون عدم ترك أرضية حل الدولتين الصلبة نسبياً، إلى رمال نتنياهو المتحركة.
وعلى القمة العربية، وهي تجدد التأكيد على مرجعية مبادرة قمة بيروت، أن تؤكد أن تنفيذ هذه المبادرة، سيتم من الألف إلى الياء، وليس من الياء إلى الألف، كما تطالب إسرائيل، فلا تطبيع ولا علاقات سلام وحسن جوار مع دولة الاحتلال والاستيطان، من دون أن تشرع إسرائيل في الجلاء عن جميع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، بما فيها الجولان ومزارع شبعا المحتلة ... أي محاولة لتعديل مبادرة السلام أو إعادة ترتيب أولوياتها، ستكون بمثابة خدمة مجانية إضافية، تقدم مرة أخرى لمن لا يستحق.
وعلى القمة العربية القادمة، أن ترفض رفضاً قاطعاً “يهودية الدولة” وأن تبدي أشد الحذر حيال أهداف ومرامي المحاولات الإسرائيلية لإجبار الفلسطينيين على إلغاء ذاكرتهم وسردياتهم وتاريخهم، كرمى لعيون ترويكا التطرف الصهيوني المتحكمة بمقاليد صنع القرار الإسرائيلي ... فضلاً عن كون “يهودية الدولة” تهديد لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، وتشكل تبريراً دينياً لكل قوى التطرف التي تسعى في إقامة “دول دينية” في المنطقة عموماً.
وعلى القمة العربية المقبلة، أن تبدي أشد الحذر والرفض لمحاولات نتنياهو، مدعومة من إدارة دونالد ترامب، الذهاب إلى “الحل الإقليمي” للقضية الفلسطينية، من خلال إلغاء دور الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني الذي تحظى به منظمة التحرير، أو من خلال القبول بتحالفات ومحاور وائتلافات تضم إسرائيل إلى جانب ما يسمى “الدول السنيّة” في المنطقة، لمواجهة إيران ... محاولات إسرائيل حرف الصراع العربي – الإسرائيلي ليكون صراعاً عربياً – إيرانياً، ولتكون هي في قلب المحور العربي أو في قيادته، لمواجهة إيران، هي محاولات خبيثة وعلى القمة العربية التنبه لها وإسقاطها.
ويتعين على القمة العربية المقبلة، أن توجه رسالة قوية لكل المحاور المتنازعة في المنطقة، التي تتصارع على اقتسام الورقة الفلسطينية، وتسعى في تحويل الفصائل الفلسطينية إلى “منصات” مثل منصة إسطنبول ومنصة القاهرة ومنصة الدوحة، ومنصة طهران – دمشق، يجب أن تجابه بموقف عربي رافض لكل أشكال التدخل الضارة في الشؤون الداخلية الفلسطينية، ودعوة كافة الأطراف المتصارعة إقليمياً لتحييد المسألة والساحة الفلسطينيتين، وبذل كل جهد لمساعدة الفلسطينيين على استعادة وحدتهم الوطنية.
سنجرؤ ونطالب القمة المقبلة، من دون أن تكون لدينا أية أوهام، بتقديم العون والإسناد للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة والقدس، لتعزيز صموده وبقائه على تراب وطنه، فالمشروع الاستيطاني الإسرائيلي يسعى في ضم الأرض وطرد السكان، ونقطة البدء في هزيمته، إنما تبدأ بإبقاء أصحاب البلاد وسكانها الأصليين، فوق ترابهم الوطني، وعدم السماح للسياسات والضغوط الإسرائيلية بتحقيق مراميها.
للفلسطينيين عنوان واحد، هو منظمة التحرير الفلسطينية، على عجره وبجره، ومن أراد استنهاض المنظمة والحركة الوطنية الفلسطينية فالطريق إلى ذلك معروفة، والمؤكد أنها لا تمر عبر “المنصات” والأطر الانشقاقية، ومن يفعل خلاف ذلك، يكون شريكاً في عملية تفتيت الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي الوحيد، بل ويكون شريكاً في الحملة الإسرائيلية الرامية على إلغاء الكيانية الفلسطينية، والقفز من فوقها لصالح مشاريع إقليمية أقل ما يقال فيها أنها شوهاء ومشبوهة.
المصدر : صحيفة الدستور