تُكْثر الحركات الإسلامية، ومن بينها الحركات الإسلامية الأردنية، من استخدام تعبير “عقيدة الأمة”، وانطلاقاً من هذا المفهوم “الشمولي/ التوتاليتاري” الغامض، يجري بناء المواقف من مشروع إصلاح المناهج التربوية والتعليمية، ومن كافة الأنشطة الثقافية والفنية، وصولاً إلى تحديد المواقف من الاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، فما الذي يفترضه هذا المفهوم؟، عن أية أمة نتحدث؟، وما المقصود بـ “عقيدة الأمة”؟
مفهوم “الأمة” لدى الإسلاميين، يؤول إلى “الأمة الإسلامية”، فالحركات الإسلامية بمجملها تاريخياً، اتخذت مواقف مناهضة للمفهوم “القومي”، بل واعتبرت “القومية” بدعة غربية هدفها تمزيق وحدة “الأمة الإسلامية”، مع أن نشوء الأمم والقوميات، ارتبط تاريخياً بصعود الرأسمالية ونظرية السوق الرأسمالي - القومي، وقام على وحدة اللغة والإقليم ومنظومة القيم والسمات المشتركة التي تشكلت تاريخياً، لدى مجموعة من الناس تقيم فوق إقليم محدد.
وجادل اليساريون، المتأثرون بالمدرسة “الستالينية” بخاصة، في مفهوم الأمة، ومن منطلق المعايير الستاتيكية المبسطة التي صورها ستالين في كتاب له حول هذا الموضوع، نفوا وجود “أمة عربية”، دع عنك مفهوم “الأمة الإسلامية”، قال بعضهم بأننا أمام “أمة قيد التشكل” وقال آخرون بأننا أمام “شعوب عربية” لديها روابط وسمات قومية، دون أن تبلغ حد “التشكل القومي الناجز”، ومن يعود لانشقاقات بداية سبعينات القرن الفائت، والسجال الذي دار في أوساط الحزب الشيوعي السوري، ودخول “يفغيني بريماكوف” على الخط، منتصراً لفريق “خالد بكداش” وطروحاته الفكرية، يدرك الترجمة العربية – السوفياتية، لمفهوم الأمة، تمام الإدراك.
بالطبع لم يقبل جميع الماركسيين واليساريين العرب هذه الأطروحات ... انتقل السجال إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وجاء رحيل نيقولا الشاوي وتسلم جورج حاوي مقاليد الحزب، لينتصر لمدرسة عربية “قومية/ ماركسية” في إدراك مفهوم الأمة، متأثراً بكتابات ياسين الحافظ وجورج مرقص ومهدي عامل وغيرهم ... وأسس الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة حاوي، مرحلة التقارب الوثيق بين ماركسية عربية منبثقة من رحم الحركات القومية (الحزب الاشتراكي اليمني، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية) من جهة والأحزاب الشيوعية العربية التقليدية من جهة ثانية، وفتح ذلك الطريق فيما بعد، للقاءات متواصلة بين التيارين القومي واليساري العربيين.
في المقابل، انطلقت الحركات القومية العربية المختلفة (ناصرية، بعثية وقوميين عرب) من فرضية الوجود التاريخي المتشكل للأمة العربية، لكأنها “معطى تاريخي – قبلي – ثابت”، وحتى سابق في وجوده للدعوة المحمدية كما جاء في أطروحات “الآباء المؤسسين” لهذه الحركات، بعضهم أسس لمعركة “ذي قار” بين العرب والفرس، قبل الإسلام، بوصفها بداية تشكل “القومية العربية”، وبعضهم الآخر عاد وربط نشوء الأمة العربية بالدعوة الإسلامية ... وكما في حال اليسار، انقسم القوميون على أنفسهم، منهم من بقي على أطروحاته، ومنهم من اقترب من اليسار العربي، وإن بنكهة “قومية” متفردة.
قلنا إن “الأمة” عند الإسلاميين، تعني “الأمة الإسلامية”، وهذا مفهوم “لا تاريخي”، ويعتمد على رابطة الدين فقط، بهذا المعنى يجوز الحديث عن أمة يهودية وأمة مسيحية وأمة بوذية وغير ذلك ... ونظروا إلى “الدعوات القومية” بوصفها رجع صدى لصعود القوميات في أوروبا، واعتبروها “وافدة” و”مستوردة”، مع أن التاريخ العربي، حافل بإرهاصات تشكل الوعي القومي والرابطة القومية العربية.
وكما عند بقية التيارات السياسية والفكرية العربية الأخرى، بدأت تظهر في أوساط الإسلاميين، تيارات ومدارس، تسعى في المزاوجة بين “القومية” و”الدين”، ولا تقيم تعارضاً بينهما، من منطلق أن غالبية العرب مسلمون، وأن العرب هم عماد الدعوة والرسالة الإسلاميتين، فإن ذلّ العرب ذلّ الدين ... والأرجح أن هذه المدارس انبثقت من الحاجة لتبرير التحالفات السياسية الموضوعية التي نشأت بين التيارين اللذين واجها في كثير من المنعطفات، التحديات ذاتها، خصوصاً إبان مرحلة الركود والاستبداد التي سادت المنطقة العربية في المنقلب الثاني من القرن الفائت.
وإذ أجاز إسلاميون كثر، فكرة التحالف والتعاون، مع اليساريين والشيوعيين، إلا أننا لم نجد تنظيراً لهذه العلاقة “الهجينة”، مماثلاً للتنظير الإسلامي الذي سعى في المواءمة بين “العروبة” و”الإسلام”، ودائماً بفعل الخشية من الوقوع في مطب إجازة المرجعيات الفكرية لليسار العربي، والتي تنحو في مجملها منحى مناهضاً للمرجعيات الدينية على اتساعها.
هناك مسلمون يتوزعون على أكثر من خمسين دولة مسلمة، وجاليات مسلمة لا تخلو منها دولة في العالم، بيد أنه لا يوجد هناك، بأي معيار علمي، “أمة إسلامية واحدة”، من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية التعاون والتنسيق بين هذه الدولة، أو العمل على إضعاف أطرها ومنظماتها الإقليمية والدولية، بالأخص منظمة التعاون الإسلامي ... لكن الحديث عن تنسيق وتعاون وتكافل شيء، والحديث عن “أمة إسلامية” شيء آخر.
ثم، ماذا نعني بتعبير “عقيدة الأمة” ... الأمم بالعادة لديها منظومات قيمية وأخلاقية وميزات مشتركة تميز مواطنيها، بيد أن لكل أمة جملة من العقائد التي يتوزع عليها أبناؤها وبناتها ... قوميون ويساريون وليبراليون، متدينون وغير متدينين، أتباع ديانات وعقائد مختلفة، ولا دينيون ... وعندما نقصد شيئاً محدداً بقولنا “عقيدة الأمة” فكأننا نخرج بقية أنصار العقائد الأخرى وأتباعها، من “الأمة” ذاتها، أو لكأننا نشطب بجرة قلم واحدة، التعددية الفكرية – العقدية، واستتباعاً السياسية في دولنا ومجتمعاتنا.
وإذا كان المقصود بـ “عقيدة الأمة” ديناً معيناً، كالإسلام مثلاً، فإن سؤالا استدراكياً تالياً سيطرق الأذهان: عن أي إسلام نتحدث فيما المذاهب يكفر أحدها الآخر، في لحظة تاريخية لا تكف فيها الحركات الإسلامية المذكورة ذاتها، عن تكفير غيرها من الحركات والميليشيات التي تقدم نفسها بوصفها منتمية لـ “عقيدة الأمة” ورافعة للوائها أيضاً؟ ... وماذا عن غير المسلمين من أبناء “الأمة”؟ ... وهل يعقل أن تكون “الرابطة” بين الأردني المسلم والبنغالي أو النيبالي المسلم، أشد وثوقاً من الرابطة بين المسلم الأردني والمسيحي الأردني؟
تعلمنا صغاراً أن “الدين” هو أحد الروابط والعناصر المكونة لـ “الأمة”، وأحد الضمانات لوحدتها وتماسكها ... بيد أننا اكتشفنا كباراً خلاف ذلك، فالانقسام الأعمق الذي يزلزل كيان المشرق والخليج العربيين، من اليمن إلى لبنان، هو الانقسام داخل أتباع الدين الواحد، وبين مذاهبه المختلفة ... حتى في إطار المذهب الواحد، هناك مدارس متصارعة ومقتتلة، وقد جرت أنهار من الدماء على يد “الفرقة الناجية” التي قتلت من أهل السنة والجماعة، أكثر مما فعل خصوم الأمة التاريخيون ... أحسب أن مراجعات كثيرة مطلوبة في المفاهيم والمسلمات التي نشأ عليها خطاب الكثير من الحركات الفكرية العربية، ومن بينها حركات اسلامية، وبدءاً من مفهوم “عقيدة الأمة” الذي يذكر بتجارب وعقائد شمولية، ليست الفاشية والنازية والعنصرية سوى نماذج متضخمة ومَرَضية عنها.
المصدر: الدستور