تُثبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوماً إثر آخر، أنها تنتمي لتجربة العالم الثالث في الحكم والإدارة، وليس إلى الديمقراطيات الغربية أو “العالم الأول”، وفي سلوك رئيسها على وجه التحديد، لا تزيد عن كونها “طبعة مزيدة ومنقحة” من تجربة “ملك ملوك أفريقيا” و”قائد المثابة العالمية” العقيد الراحل معمر القذافي.
جاءت إلى الحكم على بساط الشعبوية المنفلتة من كل عقال، وتحت جنح الحرب على الهجرة والمهاجرين ووعود منع السفر والتسلل وبناء الأسوار والأسيجة، حصدت ما يكفي من أصوات
“الهيئة الناخبة”، مع أنها برغم اهتياجاتها الانتخابية ظلت متخلفة عن حملة هيلاري كلينتون بثلاثة ملايين صوت على الأقل.
واشتبكت صبيحة اليوم التالي لأداء القسم، بمظاهرات مليونية لنساء الولايات المتحدة، اللواتي صدمن بوجود رئيس “ماجن” لا يعرف النساء إلا في الغرف المغلقة، قليلة الإضاءة، وهن بالنسبة إليه، هدف دائم للتحرش والتندر، رئيس لا يثق بالمرأة ولا يحترم مكانتها ومكتسباتها، ولا يرى لها دوراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد.
مبكراً، وقبل أن يطأ بقدميه البساط الأحمر في الأبيض، كان أدخل العائلة والأقارب والمحاسيب، في معيته وتحت جناحيه، إلى قلب عملية صنع القرار ... لا فواصل بين العائلي والمؤسسي في عمل الرجل، صهره كوشنر، له بالغ الأثر في قراراته، ويقال إن ترامب تخلى عن أكبر وأخطر مستشاريه ستيف بانون، كبير إستراتيجيي البيت الأبيض، لأن لا كيمياء بينه وبين طفله المدلل، وزوج ابنته المدللة.
ابنته إيفانكا ذات تأثير طاغٍ عليه ... يقال إنه أمر بقصف مطار الشعيرات بعد أن أبلغته بانزعاجها من صور الأطفال القتلى في خان شيخون ... والابنة المدللة تنافس زوجة أبيها على مكانة “السيدة الأولى”، وهي رفيقة دربه في أول زياراته الخارجية كرئيس للولايات المتحدة .
قبل الانتخابات وبعدها، طاردته الفضائح من كل حدب وصوب، أقلها أهمية، جرائم التحرش، وأكثر إحراجاً، تهربه الضريبي وروابطه مع عالم المال والسياسة في روسيا ... هو الرئيس الأول منذ أربعين عاماً على الأقل الذي لم يقدم إقراراً ضريبياً حتى الآن، وثمة ما يشي بوجود ثقوب سوداء كثيرة في سجل حياته العملية السري، أحسب أنها ستتكشف تباعاً.
أبلغني مصدر مطلع في واشنطن، أن السبب وراء وجود 500 شاغر في إدارات الدولة العليا في واشنطن، أن الرجل أمر بإجراء تحقيق مع كل متقدم لشغل الوظيفة الرفيعة، بما في ذلك، فحص حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن كان ممن انتقدوه أو حرضوا على عدم انتخابه، قوبل بالصد، وهذا ما يفسر وجود هذا العديد الكبير من الشواغر على الرغم من مرور أزيد من مائة يوم على الإدارة.
ما من رئيس تولى مقاليد الحكم في الأبيض، وبدأ بخسارة كبار موظفيه، تباعاً وبسرعة قياسية مثل ترامب ... مايكل فلين مسشاره لشؤون الأمن القومي، يخرج مجللاً بالفضيحة، وهو قيد التحقيق الآن، والتحقيق معه قد يفتح أبواباً كثيرة ما زالت مغلقة .... وجيمس كومي مدير الـ “اف بي آي” يطرد من عمله، شر طردة، ويسمع بخبر طرده وهو في لوس أنجلوس، والسبب الرسمي وراء قرار طرده، هو ذاته السبب الذي استحق عليه الثناء والتقدير من ترامب نفسه، وقبل أربعة أشهر فقط: إثارة ملف البريد الإلكتروني للمرشحة كلينتون ... ستيف بانون، الذي وصف بالعقل المدبر للإدارة، يقف على حافة الطرد هو الآخر بعد أن جرد من صلاحياته ومواقعه، ووراء كل واحد من هؤلاء قصة / فضيحة لتروى.
ما من رئيس لجأ إلى الإعلام لتهديد موظفيه وابتزازهم ...بعد أن أخفق في شراء ولائهم الشخصي ... كومي ينهض شاهداً على عقلية “القذافي” التي تتحكم بترامب: دعاه إلى عشاء خاص لشراء ولائه وإتمام صفقة معه، فلما أخفق، ومضى في تحقيقاته حول “صلات روسية” لحملة ترامب الانتخابية، أقدم على طرده، وهدده بنشر تسجيلات له، ستناقض كل ما قد يورده إن هو – كومي – تحدث للصحافة والإعلام.
رئيس يدير البلاد عبر تغريداته وبنظام البث المباشر، على طريقة الخطابات والمؤتمرات الصحفية للراحل الليبي، والتي كان يفاجئ بها كبار المقربين منه، بمواقف وسياسات وإجراءات، لم تكن تخطر ببال أي واحدٍ منهم.... رئيس لا يتورع ولا يتردد بل ولا يجد مشكلة في قول الشيء ونقيضه، في السياسات والإجراءات المحلية، كما في السياسات والإستراتيجيات الخارجية الكبرى ... رئيس لا أحد يعرف ماذا يريد، والجميع على بينة من أنه هو شخصياً لا يعرف ما يريد.
أمريكا تقاوم ترامب، هذه حقيقة أخرى، وأعرف عدداً من الأمريكيات اللواتي شاركن في مظاهرات ضد سياساته حيال النساء والمناخ والهجرة وغيرها، قالوا لي إنهم اعتادوا التظاهر تنديداً بانتهاكات هذه القيم في أماكن أخرى من العالم، لكنهم لم يخطر ببالهم أنهم سيضطرون يوماً للتظاهر دفاعاً عنها في وجه منتهكيها في الولايات المتحدة ذاتها.
من المؤسف أن تستمر هذه الإدارة في مكانها لأربع سنوات، ومن العار أن يجري التجديد لها ... أمريكا أمام الاختبار الأكبر في تاريخها الحديث، فإما أن تثبت أنها مخلصة لنظامها وقيمها، وأنها ليس أقل من فرنسا وهولندا على أقل تقدير، وأنها تمتلك الأدوات لفعل ذلك، وإما أن تقبع في ذيل قائمة المتشدقين بقيم العالم الحر ومبادئه.
المصدر : صحيفة الدستور